رسائل أدبية

ستر الله والغيب السحيق


بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله الذي غرس محبة الوطن في قلوبنا وجعل الدفاع عنه فريضة في ديننا، ونشهد أن لا إله إلا الله إلهنا وربنا، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله أسوتنا وقدوتنا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبع هديه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، قال جل في علاه ” يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ” ثم أما بعد اعلموا يرحمكم الله إن وراء الستر من الله تعالي علي العباد الكثير مما لم يعلمه الناس، ولو علموا كل شيء آخر، فسيظلون واقفين أمام تلك الأستار، لا يدرون ماذا يكون غدا بل ماذا يكون اللحظة التالية، وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله تعالي، والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة.

رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل المنظور، والغيب السحيق، وفي خواطر النفس، ووثبات الخيال، ما بين الساعة بعيدة المدى، والغيث بعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان والكسب في الغد، وهو قريب في الزمان ومغيّب في المجهول، وموضع الموت والدفن، حيث يقول تعالي ” إن الله عليم خبير ” وليس غيره بالعليم ولا بالخبير، ولقد شبّه الله تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح بالماء، الذي أنزله لحياة الأشباح، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير، الذي يضطر إليه العباد، بما في المطر من النفع العام الضروري، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية، التي تسيل فيها السيول فواد كبير يسع ماء كثيرا، كقلب كبير يسع علما كثيرا، ووادي صغير يأخذ ماء قليلا كقلب صغير يسع علما قليلا وهكذا.

وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها بالزبد، الذي يعلو الماء، ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية، التي يراد تخليصها وسبكها، وأنها ما تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي، والحلية الخالصة، كذلك الشبهات والشهوات، ما يزال القلب يكرهها ويجاهدها بالبراهين الصادقة، والإرادات الجازمة، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره، والرغبة فيه، فالباطل يذهب ويمحقه الحق ” إن الباطل كان زهوقا ” وقال هنا ” كذلك يضرب الله الأمثال ” ففي الآية السابقة مثل الحق والباطل في هذا الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا، ولكنه بعد زبد أو خبث ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه.

والحق يظل هادئا ساكنا، وربما يحسبه بعضهم قد إنزوى أو غار أو ضاع أو مات ولكنه هو الباقي في الأرض، كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس، حيث يقول تعالي ” وكذلك يضرب الله الأمثال ” وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات، ومصائر الأعمال والأقوال، وهو الله الواحد القهار، المدبّر للكون والحياة، العليم بالظاهر والباطن، والحق والباطل والباقي والزائل، هذا كما أن في الآية الكريمة حقيقة علمية تقول إن دورة المياه الأرضية ثابتة ما دامت قد وجدت الحياة، وإنه لا سبيل إلى زيادة الماء قطرة، ولا أن تنقص منه قطرة، فالماء يتبخر من الزرع والنبات، وما تستهلكه كل الأحياء من ماء إنما يعود إلى الأرض ثانية كاملا غير منقوص في مخلفاتها، أو في بقايا أجسامها، وإن جبال الجليد والثلوج عندما تسيل، فإنها لا تضيف جديدا على الماء، لأنها أصلا من ماء الأرض، وهذه الدورة المائية الثابتة والمقدرة قد سبقت بها وإليها آيات القرآن الكريم.

sdytm165@gmail.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *