بقلم/نشأت البسيوني

ليس الصمت دائما اختيارا
فأحيانا يموت الكلام في الحناجر قبل أن يولد
يخنق بين ضلوع امتلأت بما لا يقال
ويدفن في القلب كما تدفن الأسرار الثقيلة في جوف الليل
تتحرك الشفاه لتقول
لكن الوجع يسبقها بخطوة ويكممها
كأن الحروف تخاف أن تقال فتجرح
أو تفهم خطأ فتوجع أكثر
حين يموت الكلام في الحناجر
تتحول العيون إلى لغات أخرى
تحكي دون أن تنطق
وتصرخ دون أن تصدر صوتا
تبوح بكل ما عجزت عنه الشفاه
لكن لا أحد يفهمها سوى الله
هناك كلمات يا صديقي
تحترق في صدورنا
نعيد صياغتها ألف مرة في عقولنا
نهيئ أنفسنا لقولها
ثم حين نواجه اللحظة
نتراجع
نبتلعها بصمت حارق
كأننا نخاف من آثارها أكثر من وجعها
يموت الكلام أحيانا لأن الطرف الآخر لا يسمع
وأحيانا لأنه لا يريد أن يسمع
وأحيانا لأننا نحن تعبنا من التكرار
تعبنا من شرح ما لا يفهم
ومن الدفاع عن مشاعرٍ لا تقدر
ومن التمسك بعلاقات أنهكها سوء الفهم حتى التلاشي
حين يموت الكلام في الحناجر
نشعر أن العالم كله أصبح ضيقا
كأن الصدر قفص يحتجز العبارات
وكأن النفس تخرج مثقلة بحروف معلقة بين البوح والكتمان
نضحك كي نخفي اختناقنا
ونتحدث في أمور عابرة كي لا ينكشف وجعنا
لكن داخلنا ضجيج يصعب إسكاته
يا صديقي
ليس الصمت دائما حكمة
بل أحيانا عجز
وأحيانا خوف
وأحيانا احترام لقلوب لا تحتمل الحقيقة
نصمت لأننا نعرف أن الكلام لن يغير شيئا
وأن بعض الحروف لو خرجت
لكسرت ما تبقى من الجسور بيننا وبين من نحب
ويموت الكلام في الحناجر أيضا حين ندرك أن لا جدوى
أن كل المحاولات السابقة انتهت إلى الصمت ذاته
أن التعبير صار تكرارا بلا أثر
وأننا مهما قلنا لن يسمع صوتنا كما نريده أن يسمع
لكن رغم موت الكلام
يبقى في القلب ضوء صغير لا ينطفئ
ضوء الإيمان بأن الله يعلم ما لم نستطع قوله
وأنه يسمع حتى الحروف التي اختنقت قبل أن تقال
ذلك الضوء هو ما يبقي أرواحنا حية
ويجعلنا نبتسم رغم الحزن
ونكمل الطريق رغم الصمت
وفي النهاية
حين يموت الكلام في الحناجر
نكتشف أن الصمت لم يكن هزيمة
بل حماية
حماية لكرامتنا
ولقلب أنهكته المحاولات
ولروح لم تعد تحتمل وجع البوح
وهكذا نمضي
نحمل داخلنا كلمات لم تقال
وحكايات لم تكتب
ونظرات لم تفهم
لكننا رغم ذلك نظل نؤمن أن الله وحده سمعنا
حين لم يسمعنا أحد