مقال

حين يختلط اللقب بالعقل

حين يختلط اللقب بالعقل
بيان تمهيدي لسلسلة:
«عباقرة من خارج القاعات»
بقلم: د. كامل عبد القوى النحاس

إعادة ترتيب الأولويات:

سلسلة «عباقرة من خارج القاعات» محاولة لإعادة الميزان إلى نصابه:
العقل أولًا، ثم الأثر، وتأتي الألقاب حيث ينبغي لها أن تكون.
ليست هذه السلسلة موقفًا ضد التعليم، ولا طعنًا في الشهادات، ولا خصومة مع الجامعات أو البحث العلمي.
إنها محاولة هادئة لإعادة ترتيب الأولويات، حين اختلط الوسيط بالغاية، واللقب بالأثر، والاعتماد الأكاديمي بقيمة العقل ذاته.
نكتب لأننا نرى – بوضوح متزايد – أن سؤال: «من أنت؟» سبق سؤال: «ماذا تقول؟»، وأن التصنيف صار أسبق من الفكرة، وأن عقولًا حقيقية أُقصيت لا لضعفها، بل لأنها لم تمر عبر المسار المعتمد.
العقل والشهادة: فرق جوهري
هذه السلسلة لا تمجّد الجهل، ولا تحتفي بالعشوائية، ولا ترفع “الموهبة” في مواجهة “العلم”، بل تُفرّق بوعي بين العلم كأداة تنظيم، والعقل كقيمة فاعلة.
نؤمن أن الشهادة تُنظّم المعرفة، لكنها لا تخلق العبقرية، وأن القاعات تُهذّب العقول، لكنها لا تحتكر ولادتها.
في لحظةٍ ما من تاريخنا الحديث انقلب الميزان: صار اللقب أعلى صوتًا من الفكرة، والختم أسبق حضورًا من العقل، وأضحى السؤال الأول ليس: ماذا تقول؟ بل: بأي صفة تقول؟
هكذا، وبهدوءٍ مخيف، تسلّل وهم مفاده أن الدكتوراه لا تُنظّم المعرفة فحسب، بل تُنشئ العقل نفسه؛ وأن من لم يمرّ عبر القاعات، ولم يجتز طقوسها، ولم يحمل لقبها، فمكانه الهامش… ولو كان في صدره بحر.
الشهادة… ورقة، والعقل روح
الشهادة – مهما علت – وسيلة تنظيم، تُحسن الترتيب، لكنها لا تخلق الإبداع، ولا تضمن عمق الفهم.
هي دليل اجتياز، لا شهادة عبقرية.
وهنا يظهر الفرق الجوهري بين:
من يحفظ المعرفة
من يفهمها
ومن يُعيد خلقها ويبعث فيها الحياة
كم من حافظٍ بلا روح، وكم من قارئٍ صنع مدرسة، وكم من عقلٍ حرّ سبق الجامعة، ثم اضطرت الجامعة أن تلحق به.
حين يُقدَّس اللقب
الخطر لا يكمن في الدكتوراه ذاتها، بل في تقديسها.
حين يتحول اللقب من أداة إلى صنم معرفي، يُخيف السؤال، ويُربك الإبداع، ويُكافئ التكرار، ويعاقب الخروج عن السطر.
عندها لا يُطلب من العقل أن يُفكّر، بل أن يُطابق، ولا يُنتظر من الباحث أن يغامر، بل أن يُرضي اللجنة.
التفوق الحقيقي
عقولٌ حازت أعلى الشهادات… بلا أثر، وأخرى بلا ألقاب… غيّرت وجه الثقافة والفكر.
التفوق الحقيقي لا يُقاس بعدد السنوات الدراسية، بل بعدد العقول التي أيقظتها، ولا بكمّ المراجع، بل بقدرتك على إضاءة فكرة، ولا بالرتبة العلمية، بل بصدقك مع المعرفة وجرأتك في خدمتها.
ليس ما حصلتَ عليه، بل ما أضفتَه، وليس ما حملتَه من ألقاب، بل ما تركتَه من أثر.
العقل فعلٌ لا وثيقة
العقل لا يُستخرج من رسالة، ولا تُولد العبقرية من مناقشة، ولا تُقاس المواهب بعدد السنوات التي قضاها صاحبها في مقاعد صامتة.
العقل فعلٌ لا وثيقة، وموقفٌ لا شهادة.
والموهبة الحقيقية تسبق الاعتراف بها… وغالبًا تُحارب قبل أن تُصفَّق لها.
وكم من دكتورٍ حُسنُه في الهامش، وكم من حرٍّ بلا لقبٍ كتب المتن كلَّه.
تمهيد لما سيأتي
سنقف في هذه السلسلة أمام نماذج حقيقية لشخصيات صنعت أثرها خارج الإطار الرسمي، لا لتنتقص من قيمة الإطار، بل لتذكّرنا أن التاريخ لا يسأل عن الألقاب، بل يحتفظ بما نجا من الزمن.
مصطفى صادق الرافعي؛ رجلٌ لم يعرف القاعات، لكن القاعات لم تستطع تجاهله.
لم يُكمل تعليمه النظامي، غير أنه كتب أدبًا هزّ “عميد الأدب العربي”، وتحدّى المنهج لا بالصوت العالي، بل بقلمٍ صادق، وفكرٍ راسخ، وموهبةٍ لا تستأذن لقبًا.
هذه دعوة لا لإسقاط المعايير، بل لإنصاف العقل، ولا لهدم البناء، بل لتحرير المعنى.
العقل أولًا… ثم يأتي كل شيء في موضعه.

sdytm165@gmail.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *