Uncategorized

حين تهدم الأرواح جدرانها وتجلس في العتمة


بقلم/نشأت البسيوني

كثيرون يظنون أن الحزن مجرد ظل ثقيل يعبر بنا ذات يوم ثم ينصرف لكن الحقيقة أن الحزن قد يتحول إلى وطن كامل إلى جغرافيا معتمة تتوزع فيها أرواحنا على هيئة مدن مهدمة وشوارع خالية من المارة هناك لحظات لا نعرف فيها أين ننتمي هل ننتمي إلى الماضي الذي خاننا أم إلى الحاضر الذي يرفض أن يتسع لنا أم

إلى غد يتأخر عمدا كأنه يتعمد اختبار قدرتنا على البقاء في تلك اللحظات الطويلة التي تتسرب فيها الدقائق كقطرات من ماء مالح تتبدل ملامحنا دون أن نشعر وتنكمش الكلمات في حناجرنا ويصير الصمت هو اللغة الوحيدة التي تحفظ بعض بقايا كرامتنا من الانهيار
يولد بعض الحزن كجرح صغير لا نكاد ننتبه له ثم يكبر في زاوية

بعيدة من الذاكرة يكبر مثل طفل مهمل في بيت بلا أبواب لا أحد يراه ولا أحد يربت على كتفه فيقرر أن يكبر وحده وأن يتعلم وحده كيف يصبح أقوى منا جميعا وربما لم نكن نتخيل أن الزمان الذي علمنا أن نتماسك يستطيع مرة واحدة أن يعلمنا الانكسار أيضا وأن كل تلك السنوات التي اعتقدنا فيها أننا صلبون كالصخر كانت مجرد أوهام ظنها القلب ليطمئن نفسه من الخوف

إن أرواحنا لا تنهار فجأة كما يظن البعض إنها تتشقق ببطء كما تتشقق الأرض من تحت جذور الأشجار القديمة تتصدع دون صوت ليأتي يوم لا يمكن فيه ترميم أي شيء نحن لا نسقط في الحزن سقوطا حادا بل نتسلل إليه خطوة بعد خطوة حتى نجد أنفسنا في منتصفه دون أن نعرف متى بدأنا السير أصلا وربما كان أصعب ما في الحزن تلك اللحظة التي نكتشف فيها أننا لم نعد كما كنا وأن
شيئا ما في الداخل قد انطفأ للأبد

هناك ليال تشعر فيها أن الكلمات التي كنت تقاتل بها الدنيا لم تعد تكفيك ليال تتكاثر فيها الهزائم حولك كجيوش مظلمة وتجلس فيها أمام مرآتك متسائلا كيف وصلت إلى هنا ولماذا صار قلبك أثقل من قدرتك على حمله في تلك الليالي لا تحتاج إلى ضوضاء ولا تحتاج إلى ضوء بل إلى مساحة صغيرة فقط تستطيع أن تفر فيها من نفسك أن تبتعد عن جروحك أن تتسلل إلى ركن لا يصل فيه أحد إليك لكن المفارقة أن أعمق هروب هو الهروب من الداخل والهروب من الداخل أصعب من الخروج من جلودنا

نحن نخسر أنفسنا مرات كثيرة دون أن ننتبه نخسرها حين نضحي أكثر مما يجب حين نغفر قبل أن نفهم حين نصفق لمن لا يستحق وحين نفتح أبوابنا لكل من يطرق دون أن نسأل أنفسنا هل هذا القادم يستحق أن يسكن في أرواحنا نخسر أنفسنا حين نضع قلوبنا في يد من لم يتعلم يوما كيف يرد العطاء وحين نجري خلف من لا يلتفت وحين نبكي من أجل من لم يقدر دمعا واحدا نحن نخسر أنفسنا حين نحب أكثر مما يجب ونصمت أكثر مما يجب وننتظر أكثر مما يحتمل العمر

ومع ذلك هناك شيء ما يعيدنا دائما إلى الوجع كأننا مرتبطون به بخيط خفي كأن الحزن ليس ضيفا على أرواحنا بل جزءا من طينتها الأولى كلما حاولنا الفرار عاد إلينا بأسماء جديدة وملابس مختلفة لكنه هو الحزن ذاته وربما لا يعود لأننا ضعفاء بل لأنه يعرف أننا لم نجد بعد شيئا يستحق أن نضع فوقه جبال صبرنا يعرف أن القلب لا يزال يبحث عن حضن آمن ليطمئن فيه وأن الروح لا تزال تتلمس طريقها بين الأنقاض

كم مرة حاولت أن تشرح لأحدهم نوع الألم الذي يسكنك ولم تجد الكلمات كم مرة ابتسمت أمام الناس بينما الداخل مكسور كلوح زجاج كم مرة أردت أن تصرخ لكنك خفت أن تنهار دفعة واحدة إننا نتظاهر بالقوة خوفا من أن نخسر صورتنا أمام أنفسنا لا أمام الآخرين نحن نخشى الانهيار لا لأنه يعرينا بل لأنه يواجهنا بحقيقتنا يضعنا أمام المرآة ويجبرنا أن نرى ما كنا نتجنب رؤيته طوال العمر
هناك نوع من الحزن لا يخفت لا يهدأ لا يلين حزن يشبه صوت

الريح حين تمر في بيت مهجور أو يشبه بابا يطرق دون أن يجيء أحد هذا الحزن يسكن تفاصيلك دون أن تشعر يرافقك إلى نومك ويستيقظ قبلك يقف معك أمام النافذة ويمشي بجانبك في الشوارع ويجلس معك على مقعدك القديم حين تتظاهر أنك بخير إنه لا يحتاج إلى إذن ليعيش داخلك فهو يعرف أنك لن تمنعه لأنه لم يترك لك مساحة للاعتراض

ومع مرور الوقت يصير الحزن صديقا متخفيا رغم أنك لم تعد ترغب في صداقته يتجول في ذاكرتك كما يشاء يعيد ترتيب مشاهد حياتك دون إذنك يفتح نوافذ الماضي ويغلق أبواب المستقبل يهمس لك في كل لحظة بأنك فقدت أكثر مما احتملت وأنك ربما لن تعود كما كنت وربما كان هذا هو الألم الحقيقي أنك تفقد نسخة من نفسك دون أن تحصل على نسخة أفضل

إن الأرواح حين تنهار لا تحدث ضوضاء بل تنطفئ بصمت وهذا الصمت هو الأكثر إيلاما فالألم الصاخب يمكن احتماله أما الألم الصامت فهو الذي يبقى في العظام لا يراه أحد ولا يواسيه أحد يكون الإنسان محاطا بالناس لكنه يشعر أنه وحيد كجبل مهجور يمشي بينهم لكنه يسير داخل فراغ لا يشاركه فيه أحد. وعندها يدرك أن الوحدة ليست أن يخلو المكان من البشر بل أن يخلو القلب من الشعور بالأمان

وهكذا يصبح العمر سلسلة من محاولات الترميم نلصق شقوق الروح بالسكوت نغطي آثار الهزائم بالأمل نرمم حوافنا المكسورة بأكاذيب صغيرة نخبر بها أنفسنا كي نستطيع أن نستيقظ كل صباح نقنع قلوبنا بأن كل شيء سيكون بخير رغم أننا نعرف حقيقة الأمر أن ما انكسر لا يعود كما كان وأن بعض الوجوه لا تعود مهما انتظرناها وأن بعض الأبواب إذا أغلقت فتح بعدها أبواب أخرى لا تشبه أحلامنا

ومع كل ذلك نحن نستمر نستمر لأن الحياة رغم قسوتها لا تمنحنا فرصة الاستقالة نستمر لأن نفوسنا رغم الحزن لا تزال ترغب في شيء ما يشبه الخلاص نستمر لأن داخلنا نقطة ضوء صغيرة مهما كانت ضعيفة ترفض أن تنطفئ نستمر لأننا نؤمن ولو في أعمق أعماق اليأس أن هناك يوما سيأتي ينفض عن أرواحنا غبار الطريق وينتشل قلوبنا من ظلامها الطويل

ولعل أجمل ما قد يحدث أن نجد ذات يوم لحظة نقول فيها لأنفسنا كفى كفى حزنا أكبر من قدرتك وكفى صمتا أكبر من طاقتك وكفى انتظارا لا يليق بندمك ولا يستحق دموعك حينها فقط نستطيع أن نعيد ترتيب أرواحنا لا لنعود كما كنا بل لنصبح نسخة أقوى وإن كانت مليئة بالندوب فالندبة ليست عيبا بل شهادة بأننا نجونا

وفي نهاية المطاف لا بد أن ندرك أن الأرواح مهما تهدمت جدرانها تستطيع أن تجلس في العتمة قليلا ثم تنهض وأن الحزن مهما طال لن يكون نهاية الطريق بل مرحلة طويلة مظلمة لكنها مرحلة وليست قدرا أبديا

osama elhaowary

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *