أخبار الاقتصاد

العقود الذكية (Smart Contracts): بين الثورة القانونية والتحديات التشريعية

العقود الذكية (Smart Contracts): بين الثورة القانونية والتحديات التشريعية
بقلم / عمرو الريدي

ملخص تنفيذي

العقود الذكية تمثل نقلة نوعية في البنية التحتية القانونية والمالية العالمية، حيث تجمع بين تخصصين كانا منفصلين تاريخياً: القانون وتكنولوجيا المعلومات. هذا المقال يبحث في ماهية العقود الذكية، إمكاناتها الثورية، والتحديات القانونية الجوهرية التي تطرحها، مع تحليل الأطر التنظيمية الناشئة والمقترحات التطويرية.

  1. المقدمة: العقد في العصر الرقمي

شهدت العقود تطوراً تاريخياً من الشفهية إلى الكتابة، ثم إلى الشكل الإلكتروني، وصولاً إلى الجيل الرقمي القائم على تقنية البلوك تشين. العقود الذكية، كفكرة، تعود إلى عالم الكمبيوتر نيك سابو عام 1994، لكنها لم تتحول إلى واقع عملي إلا مع ظهور تقنية البلوك تشين وخاصة منصة الإيثيريوم عام 2015.

  1. المفهوم التقني والقانوني للعقود الذكية

2.1 التعريف التقني

العقد الذكي هو “برنامج كمبيوتر ينفذ تلقائياً شروط العقد عند تحقق شروط محددة مسبقاً، وذلك على منصة بلوك تشين لامركزية”. يتميز بأنه:

· ذاتي التنفيذ: لا يحتاج وسيطاً بشرياً
· غير قابل للتغيير: لا يمكن تعديله بعد النشر
· شفاف: يمكن للجميع مراجعة شيفرته (في العقود العامة)

2.2 الطبيعة القانونية: الجدل الفقهي

الاتجاه الأول: يرى أن العقد الذكي ليس عقداً بالمعنى القانوني التقليدي، بل هو مجرد وسيلة تنفيذ للعقد (المادة 1/89 من القانون المدني المصري تنص على أن “العقد شريعة المتعاقدين” مما يفترض إرادة واعية).

الاتجاه الثاني (وهو الراجح فقهاً): يرى أن العقد الذكي يمكن أن يكون عقداً صحيحاً إذا توافرت أركان العقد:

· الرضا: يتم عبر الموافقة على الشروط الرقمية (إشكالية الإرادة الواعية)
· المحل: موجود إذا كان ممكناً ومشروعاً
· السبب: موجود إذا كان مشروعاً

الاتجاه الثالث: الوسيط، يرى أن العقد الذكي يحتاج لتكامل مع العقد التقليدي (“عقد مختلط”) كما بدأت تظهر في بعض القوانين الحديثة.

  1. الإمكانات الثورية للعقود الذكية

3.1 الكفاءة والسرعة

· تنفيذ فوري عند استيفاء الشروط (ثوانٍ بدلاً من أيام أو أسابيع)
· تقليل التكاليف البيروقراطية والوساطة (توفير قد يصل إلى 80% في بعض القطاعات)

3.2 الشفافية والثقة

· السجل غير القابل للتغيير يمنع الإنكار والتنصل
· إمكانية التدقيق العام في بعض النماذج

3.3 التطبيقات العملية الثورية

· التمويل: القروض اللامركزية (DeFi) التي بلغ حجمها أكثر من 100 مليار دولار
· سلاسل التوريد: تتبع المنتج من المصدر إلى المستهلك النهائي
· الملكية الفكرية: تحصيل الإتاوات تلقائياً
· الخدمات الحكومية: تسجيل الملكيات، إصدار الوثائق

  1. التحديات القانونية الجوهرية

4.1 تحديات تتعلق بأركان العقد

أولاً: الرضا والعيوب الإرادية

· الإشكالية: كيف نثبت أن المستخدم فهم شروط عقد معقد مكتوب بلغة برمجية؟
· النقص في الأهلية: من المسؤول إذا وقع القاصر على عقد ذكي؟
· الغلط والتدليس: صعوبة إثباتها في بيئة لامركزية (المادة 120 من القانون المدني المصري تنظم الغلط)

ثانياً: قابلية العقد للإبطال أو التعديل

· العقود الذكية غير قابلة للتعديل بطبيعتها التقنية
· إشكالية: ماذا لو ظهر خطأ برمجي (Bug) يؤدي لنتائج غير عادلة؟
· حادثة “The DAO” الشهيرة عام 2016 حيث تم استغلال ثغرة وسرقة 50 مليون دولار، مما اضطر مجتمع الإيثيريوم لتنفيذ “هارد فورك” يتعارض مع فلسفة “عدم القابلية للتغيير”

4.2 المسؤولية والعيوب الخفية

· من المسؤول عند وجود عيب خفي في السلعة المشتراة عبر عقد ذكي؟
· تطبيق نظرية العيب في التصميم على الأخطاء البرمجية

4.3 السرية والخصوصية

· العقود العامة على البلوك تشين مرئية للجميع
· تعارض مع قوانين حماية البيانات مثل GDPR الأوروبي الذي ينص على “الحق في النسيان” (المادة 17)

4.4 التنفيذ القضائي والإثبات

· إشكالية الإثبات: كيف يثبت القاضي صحة العقد الذكي وفهم أطرافه له؟
· المحاكم المختصة: في بيئة لامركزية عابرة للحدود
· التنفيذ الجبري: كيف ينفذ الحكم على عقد غير قابل للتعديل؟

  1. الأطر التنظيمية الناشئة

5.1 التشريعات المقارنة

· أريزونا الأمريكية (قانون معدل عام 2021): يعترف بالتوقيعات والعقود الذكية
· إيطاليا (مرسوم قانون “سي إم إم” 2022): تنظيم العقود الذكية في قطاعات محددة
· الإمارات (دبي: قانون المعاملات الرقمية 2022): إنشاء محكمة ميتافيرس خاصة

5.2 الموقف التشريعي العربي

· مصر: لا يوجد تشريع خاص، تخضع للقواعد العامة مع توجهات في قانون التوقيع الإلكتروني
· السعودية: رؤية 2030 تشجع التقنية مع ضوابط مرنة
· البحرين: من أوائل المنظمين في المنطقة عبر هيئة سوق المال

5.3 التوجهات الدولية

· UNCITRAL (لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي): تعمل على نموذج قانوني موحد
· مشروع قانون اليونيدروا للعقود التجارية الدولية: مراجعات لتشمل العقود الذكية

  1. الحلول والمقترحات التشريعية

6.1 نموذج العقد المختلط

دمج العقد الذكي مع:

  1. عقد تقليدي ورقي أو إلكتروني يشرح الشروط بلغة مفهومة
  2. بند تحكيم إلزامي للمنازعات التقنية
  3. “وظيفة الطوارئ” (Emergency Stop) تتيح للسلطة القضائية وقف التنفيذ

6.2 إنشاء أطراف وسيطة معتمدة

· مطورون معتمدون: مع ترخيص ومتطلب تأمين ضد الأخطاء البرمجية
· مدققي عقود: مراجعة الشيفرة قبل النشر
· محكمون تقنيون: متخصصون في فض المنازعات البرمجية

6.3 مقترحات تشريعية محددة

  1. تعديل تعريف العقد ليشمل الصيغة الرقمية الذاتية التنفيذ
  2. نظام المسؤولية المزدوجة: مسؤولية المطور + مسؤولية الأطراف
  3. إنشاء سجلات بلوك تشين وطنية: توازن بين الشفافية والخصوصية
  4. معايير وطنية للعقود الذكية: مثل “المعيار المصري للعقود الذكية”
  5. الخاتمة والتوصيات

7.1 الاستنتاج الرئيسي

العقود الذكية ليست مجرد تحدٍ أو ثورة، بل هي تطور حتمي يحتاج لتطوير الموازي للبيئة القانونية. الفجوة بين سرعة التطور التقني وبطء الاستجابة التشريعية تشكل أكبر خطر.

7.2 توصيات عملية

  1. للجهات التشريعية:
    · تبني نهج “التنظيم المرن” (Agile Regulation) قابل للتعديل
    · إنشاء وحدات متخصصة في الوزارات للتقنية الناشئة
  2. للممارسين القانونيين:
    · تطوير “محامي المستقبل” الذي يجمع بين الخلفية القانونية والفهم التقني
    · إدخال مساقات العقود الذكية في كليات القانون
  3. للمطورين والشركات التقنية:
    · تبني مبدأ “التصميم القانوني” (Legal by Design) منذ المراحل الأولى
    · التعاون مع المحامين في تصميم العقود

7.3 رؤية مستقبلية

سيتجه العالم نحو هجين قانوني-تقني حيث:

· العقود البسيطة ستكون ذكية بالكامل
· العقود المعقدة ستكون مختلطة (ذكية+تقليدية)
· ستنشأ تخصصات جديدة مثل “القانون الحسابي” (Computational Law)

الخلاصة: العقود الذكية تشكل تحدياً وثورة في آن واحد. التحدي الحقيقي ليس في التقنية نفسها، بل في قدرة النظم القانونية على التطور بسرعة كافية لمواكبتها، مع الحفاظ على قيم العدالة والإنصاف التي قامت من أجلها هذه النظم.

sdytm165@gmail.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *