
بقلم د/ عُــلا عبــد الهــادي
اخصـائي علــن النفــس التـربـوي والإكلينيكـي
في عصرٍ تتسارع فيه الوجوه وتتعالى فيه شعارات القوة والإيجابية، أصبح التعب النفسي جريمة صامتة. كثيرون ينهارون خلف جدار من التماسك الظاهري، يبتسمون أمام الجميع، بينما أرواحهم تستغيث بصوتٍ خافت لا يسمعه أحد. تلك هي مأساة الاكتئاب المقنّع، الوجه الخفي لأحد أكثر الاضطرابات النفسية انتشارًا في العالم الحديث.
وعما وراء القناع: فالاكتئاب المقنّع Masked Depressionهو حالة نفسية تُخفي ملامحها تحت ستار من التظاهر بالرضا أو النشاط المفرط. لا تبدو على المريض الأعراض التقليدية للاكتئاب كالحزن الواضح أو الانعزال الكامل، بل يظهر بمظهر الإنسان المتزن، المنتج، وربما السعيد، بينما في داخله صراع دائم بين ما يُظهره للعالم وما يعيشه في الخفاء.
المريض هنا لا يُنكر ألمه، لكنه يتعلم التعايش معه في صمت، فيبدو طبيعيًا وهو في الحقيقة غارق في الخواء. لذلك يُعد هذا النوع من الاكتئاب من أخطر الأنواع، لأن من يعانيه نادرًا ما يطلب المساعدة. ويتجلى الاكتئاب المقنّع في الحياة اليومية في صور عدة كزميلك في العمل الذي لا يتغيب أبدًا، لكنه ينهار كل مساء وحده، الأم التي تبتسم في وجه أبنائها رغم شعورها الدائم بالفراغ، أو الصديق الذي يضحك كثيرًا لكنه يتجنّب أي حديث عن نفسه.
ولا يعني الاكتئاب المقنّع غياب الحزن، بل إتقان التمثيل حتى لا يراه الآخرون. ولأن المجتمع غالبًا ما يربط الاكتئاب بالضعف أو قلة الإيمان، يتعلم المصابون أن يُخفوا جرحهم ليحافظوا على صورتهم القوية.
وحين يتحدث الجسد بدل النفس تتجسد أعراضه؛ فالعلامات لا تكون واضحة دائمًا، لكنها تُترجم في سلوك الجسد والعقل. من أبرزها: شكاوى متكررة من آلام في الرأس أو المعدة أو العضلات دون سبب طبي واضح، إرهاق دائم وشعور بعدم القدرة على التركيز أو الإنجاز رغم الجهد الكبير، اضطرابات في النوم كوسيلة للهروب من التفكير، تغيرات في الشهية بين الإفراط أو الفقدان الكامل للرغبة في الطعام، نشاط زائد في العمل أو الدراسة أو الاهتمامات السطحية، كمحاولة لتجنّب مواجهة الذات، أوميل إلى العزلة العاطفية رغم الاندماج الاجتماعي الظاهري.
وقد تُضلل هذه الأعراض المريض والطبيب أحيانًا، إذ قد يُظَن أنها مشكلات جسدية أو إرهاق طبيعي، بينما هي في الأصل صرخة مكتومة للنفس.
وتلك الضغوط المتراكمة التي لا تجد منفذًا هي السبب الرئيس لهذه الحالة، وتتنوع الأسباب، منها النفسي والاجتماعي والبيولوجي، منها الضغوط الاجتماعية كثقافة “خليك قوي” و”ماينفعش تضعف” تدفع الناس لإخفاء ألمهم، الخوف من الوصمة إذ ما زال المرض النفسي في نظر البعض عيبًا أو دلالة على قلة الإيمان، فيختار المريض الصمت بدل المواجهة، كذلك الخبرات المؤلمة القديمة كالتعرض للإهمال أو الفقد أو النقد المستمر في الطفولة، والاستعداد الوراثي والخلل الكيميائي في الدماغ خاصة في نسب النواقل العصبية المسؤولة عن المزاج مثل السيروتونين والدوبامين، بالإضافة إلى النمط الشخصي الكمالي فالأشخاص الذين يسعون دائمًا للكمال ويخافون الفشل أكثر عرضة لإخفاء معاناتهم خلف قناع الأداء العالي.
ويكمن العلاج فيرحلة نحو الصدق مع الذات؛ فالخطوة الأولى نحو الشفاء تبدأ بـالاعتراف. أن يدرك الفرد أن ما يشعر به ليس ترفا ولاضعفً، بل اضطراب نفسي يحتاج للعلاج مثل أي مرض جسدي. و غالبًا ما يجمع العلاج بين: العلاج النفسي (المعرفي السلوكي) الذي يساعد المريض على فهم أفكاره السلبية وتغييرها تدريجيًا، الأدوية المضادة للاكتئاب التي تعمل على إعادة التوازن الكيميائي في المخ، الدعم الاجتماعي، وهو أحد أهم ركائز العلاج، لأن وجود شخص يسمع بلا حكم كفيل بتخفيف الألم كثيرًا، والعناية بالنمط الحياتي من نوم كافٍ وغذاء صحي وممارسة الرياضة، فالعوامل الجسدية تدعم الاستقرار النفسي.
في النهاية، الاكتئاب المقنّع لا يصرخ، بل يهمس في أعماق النفس. هو ألم يعرف طريقه إلى القلب في هدوء، حتى يظن صاحبه أنه بخير. لكنه ليس بخير حقًا، وربما كانت أبسط خطوات النجاة أن نُصدّق ما لا يُقال، وأن نمنح من حولنا مساحة آمنة للبوح، فالكلمة الطيبة والاحتواء الصادق قد تكون أحيانًا أقوى من أي علاج.

