مقال

ا تبقّى من الضوء

ا تبقّى من الضوء
بقلم/ حسين اسماعيل

استلقت «ليلى» على السرير الأبيض البارد، بعد انتهاء الأشعة
لم يكن في صدرها وجع… لكنه كان هناك شعور صغير لا يُسمّى، كأن شيئًا غريبًا يطرق على جدار الجسد من الداخل
في غرفة الطبيب، جلس أمامها بهدوء لم تفهمه أولًا
قال بصوته الخفيض، وهو ينظر في الأوراق:
الكُتلة بحاجة إلى تدخل سريع
تحاليل الخزعة تؤكد أنها ورم خبيث في الثدي، مرحلة متقدمة
لم تبكِ
النساء لا ينهزمن دائمًا بالبكاء
أحيانًا، الصدمة تختبئ في الصمت
شكرت الطبيب بلطف، ومضت، كأنها كانت تسير في نفق طويل لا ترى فيه أحدًا
حين عادت إلى البيت، لم تخبر أحدًا
جلست على الكرسي الخشبي بجوار نافذتها، شربت شايًا خفيف السكر، وفتحت مفكرتها القديمة
كتبت:
“ربما يوشك الجسد على الخيانة… لكنني لن أسمح للروح أن تنكسر”

في المساء، استيقظت من نومها فزعة، تذكرت كل ما نسيت أن تعيشه
تذكرت أنها أجلت السفر الذي كانت تحلم به، انتظرت الزوج الذي لم يأتِ فى موعده فى مناسبات كثيرة، أهملت جسدها في سبيل الآخرين، تركت الشعر الأبيض يتمدد بلا مقاومة، وتخلّت عن الرسم، عن البوح، عن البكاء، عن الحق في أن تعيش لنفسها يومًا

في صباح اليوم التالي، ذهبت وحدها إلى المستشفى
أكملت التحاليل
سألت الممرضة إن كانت هناك جلسات دعم نفسي
كان رد الممرضة صادما:
ده في الأفلام يا مدام، ان كنت تعاني من حاجة نفسية، عيادة النفسية مفتوحة كل يوم
بدأت تقرأ عن كل شيء: العلاج، الجراحة، السقوط التدريجي للشَّعر، الآثار الجانبية، التأقلم
لم تكن تبحث عن النجاة فقط… كانت تبحث عن فهم ما تبقّى من الضوء داخلها

في الأسبوع الثاني، قررت أن تعيد ترتيب البيت
نزعت الصور القديمة من الجدران، ألقت كل ما يذكّرها بما لم يكن, واشترت فستانًا بسيطًا بلون وردي
حين رأتها جارتها، قالت متفاجئة:
“ألستِ مريضة؟”
ابتسمت ليلى وقالت:
“أنا لست ميتة”

بدأت تكتب رسائل
رسالة إلى نفسها حين كانت في العشرين
رسالة إلى والدتها المتوفاة، تعتذر فيها عن كل لحظة صمت كانت فيها غاضبة
رسالة إلى زوجها الذي أحبته يومًا، ولم يقل لها إنه أحبها أيضًا
ورسالة الى ابنها الوحيد تخبره أن اسمه يعيش بجوار كرات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية في شرايينها
لم تُرسل شيئًا
لكنها شعرت بخفة غريبة في قلبها

جلست مع زوجها وابنها، شرحت وضعها الصحي مبتسمه، قابلت ذهولهما ببريق ضوء يرسل رسائل متتالية من عينيها
قالت سعيدة : خذا أفضل ما عندى فيما تبقى

مرت الشهور
مرّت الجراحة
مرّت جلسات الكيماوي، وكل صباح كانت تقف أمام المرآة وتقول:
“أنا كاملة حتى ولو تساقط مني شيء”

في أحد الأيام، طلب منها الطبيب أن تُحضر أحدًا من أهلها، فهمت أنها على وشك مواجهة مرحلة جديدة… أصعب
لكنها، وقبل أن تذهب، جلست في المقهى القريب، شربت قهوتها المفضلة، ورسمت زهرة دوار الشمس على أحد المناديل الموجودة على المنضدة
لن أطلب من الله سوى الرضا
حتى لو كان ما تبقى من الحياة مجرد لحظات، سأجعلها تليق بي

في نهاية الرواية، لا نعرف مصير ليلى تمامًا
نعرف فقط, أنهافي ليلة صيفية، كانت تنظر إلى القمر من نافذتها، وتقول بصوت مسموع:
“إذا كتبت النهاية، فلأكن أنا من يختار الجملة الأخيرة”

النهاية مفتوحة… تشبه الحياة

sdytm165@gmail.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *