مقال

أشهر الاضطرابات النفسية مؤخرا


بقلم د.أسماء محمد سعد

في عام خمسة وعشرين بعد الألفين عاش الإنسان في عالم تكاد فيه المسافات بينه وبين ذاته تتسع باستمرار ويبدأ الشعور بالانفصال النفسي عن الحقيقة الداخلية في التنامي وتحت وطأة ضغوط الحياة المعاصرة يتفشى اضطراب القلق

كأحد أبرز الاضطرابات النفسية شيوعاً إذ إن اضطراب القلق العام أصبح الأكثر تسجيلاً من بين الاضطرابات النفسية على الصعيد العالمي وفق بيانات حديثة من منظمة الصحة العالمية تشير فيها إلى أن اضطرابات القلق والاكتئاب هي الأكثر انتشاراً ومعاناةً في جميع البلدان والمفتاح النفسي لهذا الارتباط يتمثل في الفجوة المتزايدة بين ما يعيشه الفرد وما يتوق إليه وما يراه من حوله في فضاءات التواصل والتوقعات الاجتماعية والتكنولوجية .
ويبدأ الأمر غالباً بشعور هادئ من القلق بالذات أو الزمن أو المستقبل ولا يجد الفرد منصة حقيقية للتعبير أو تفريغ هذا القلق فيتراكم داخلياً حتى يبرز في صورة اضطراب ويُفقد الفرد توازنه النفسي وتشير دراسات علم النفس إلى أن الوعي الذاتي وتنظيم العاطفة والتفكير المرن هي مهارات حياتية أساسية غالباً ما تُهمَل في بيئة تركز على الإنتاج الخارجي والنمو المادي أكثر من صقل الذات الداخلي ومع هذا الإهمال يظهر السر في شيوع الاضطرابات إذ ليس سببها فقط ضغوط الواقع وإنما ضعف الجسر الذي يصل بين الذات والوعي بها فالعالم الخارجي يتقدم ويكبر بسرعة فيما النفس تبقى تطمح إلى لحظة سكون وتأمل لكنها لا تتيحها لنفسها وتحت وطأة هذا التنامي يصبح اضطراب القلق العام ظاهراً بقلق دائم بالمستقبل أو بمقدّرات الذات أو بفقدان السيطرة أو بفكرة أن الأحداث خارجة عن اليد.
ويعبر عن ذلك الشعور بانعدام الطمأنينة والأمان الداخلي رغم كل ما يبدو من استقرار خارجي وتظهر هنا مفارقة العصر إذ صار الإنسان أكثر علماً وأقل سلاماً وأكثر تواصلاً وأقل اتصالاً بنفسه ومع الآخرين الحقيقيين إذ إن الوسائط الرقمية رغم ضخامتها تعزز الوهم بأن الاتصال تام بينما في الواقع تنقص العلاقات الحميمية والوجدانية الحقيقية ومع ازدياد هذا النقص يصبح القلق أكثر جهراً ويبدأ ليس فقط كشح في النوم أو كثرة التفكير أو انفعال مبطن بل كمعيقة وظيفية في الحياة ثم إن اضطراب القلق العام لا يعمل بمعزل عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية إذ إن تغيّرات المناخ والاقتصاد والسياسة تُحفّز الشعور بعدم الاستقرار وهذه التبدّلات التي لا يُمكن التنبؤ بها تخلق أرضاً خصبة للقلق .
كما أن الفرد يعيش في مقارنات مستمرة مع من حوله ومع صور مثالية على وسائل التواصل فيفقد اتساقه الداخلي وتندلع الحوارات النفسية الداخلية حول هل أنا كافٍ وهل يستجيب فضائي الخارجي لذاتي الداخلية وما قيمة الذات إذا لم تترجَم إلى إنجاز أو مظهر أو أداء فهنا يكمن السرّ العميق لتفشي اضطراب القلق العام فالأمر ليس مجرد ضعف طبي أو بيولوجي فقط بل صراع وجودي بين الذات والمنظومة المحيطة بها وفيه تبدو المهارة الأكبر في العلاج النفسي
إذ لا يكفي مراقبة الأعراض بل التعرف على الجذور النفسية وتدريب النفس على السلام الداخلي ومقاومة الانجراف نحو توقعات خارجية لا نهاية لها ويُظْهِر العلاج النفسي في هذا العصر ذاته استعادة اتصال النفس بالذات وبتأقلمها مع الواقع وليس هروبا منه ويصبح الهدف ليس أن نكون خاليين من القلق بل أن نحيا معه بوعي ونحول النمو النفسي من موقف دفاعي إلى علاقة واعية مع الحياة نفسها والسر الأخير أن شيوع الاضطراب في عام خمسة وعشرين ليس علامة ضعف فردي بل انعكاس لحالة حضارية تعيشها المجتمعات إذ

إن اضطراب القلق العام يظهر كمؤشر على أن الإيقاع الخارجي للعالم تجاوز قدرة النفس على التكيّف وأنه حين تضعف مهارات التأقلم الداخلي تصبح الأنظمة النفسية عرضة للاضطراب ومن هذا المنظور يصبح العلاج النفسي في هذا العصر ليس ترفاً بل ضرورة لسلام الإنسان النفسي في هذا العالم الذي لا يتوقف عن الحركة.

.

osama elhaowary

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *