تهنئة مقال

“ الوجية “

“ الوجية “
أنا الريح
كانت مريم قد بلغت سن الفتاة التي تُدرك معاني الخلوة
فانقطعت عن الناس كلهم
واتخذت لنفسها مكاناً في المحراب الشرقي من بيت المقدس
حيث يدخل نور الفجر أولاً
وآخر ضوء الغروب يخرج منه متأخراً
﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾
فلم يعد أحد يراها إلا زكريا في أوقات معلومة
وكنت أنا الريح أدخل من خلف ذلك الحجاب دون إذن ولا استئذان ، لأني لم أكن من الخلق الذي يُحجب عنه شيء.
رأيتها تقوم الليل كله
تارة راكعة حتى يُغمى عليها من طول الركوع
وتارة ساجدة حتى يبيض وجهها من شدة الدمع
وكانت إذا تعبت استندت إلى جدار المحراب الشرقي
فأهب عليها بلطف
أُدخلُ في صدرها نسمةً باردة تُعيد إليها الروح.
كانتْ تأكل قليلاً وتشرب أقل
وكلما دخل زكريا وجدها في حال أعلى من سابقه
فيتعجب ويسأل :
‘ يا مريم ، أنى لكِ هذا الهدوءُ والنور في الوجه؟ ‘
فتبتسم ابتسامة لا يراها إلا أنا
وتقول : ‘ هو من عند الله ‘.
كنت أشهد كيف كانت تُصلي حتى تُغشى عليها
فأحملها برفق من الأرضِ إلى فراشها المتواضع
وأُبقي فوق وجهِها ظلاً خفيفاً حتى تستيقظ
فإذا فتحت عينيها نظرت إلى السماء كأنها ترى ما لا نراه
ثم تعود إلى سجودها من جديد.
كنت أنا الريح الوحيدة التي تعرف
أن مريم لم تكن وحدها أبداً
كان معها ربها في كل ركعة وسجدة
وكنت أنا خادمتها الصامتة
أُنظف المحراب من غبار الدنيا
وأُدخل فيه رائحة الجنة كل فجر
حتى صار المحراب الشرقي
يُعرف عند السماء باسم ‘ بيت مريم ‘
قبل أن يعرفه أحد من البشر.
أنا الريح التي عرفت مريم وهي فتاة منقطعة في محرابها
تعبد الله كأنها لا تفعل شيئاً سواه
فاستحقت أن تُختار لأعظم تكريم في التاريخ
واستحقت أن أكون أنا من يحمل إليها
الروح الأمين في اليوم الموعود.
كنت أنا الريح ساكنة فوق المحراب الشرقي
في ذلك اليوم المعلوم ، ثم جاء جبريل
﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾
رأته مريم واقفاً أمامها في صورة بشر كامل الخلق
فارتاعت ارتياعاً لم تعرفهُ من قبل
واستعاذت بالله منه في سرعة وثبات
﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾
فقال جبريل بصوت أرقّ من الحرير وأوضح من الصباح :
﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾
فنظرت مريم إليه طويلاً ، وكأن عينيها تُفتشان في ما وراء
الوجه البشريّ حتى رأت نور الرسالة
﴿قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾
فأجابها جبريل وكلماته تخرج من فمه كأنها ضوء صاف : ﴿قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾
فسكتت مريم ، وخفضت رأسها إجلالاً وتسليماً
ولم تقل كلمة واحدة أخرى
بل فتحت صدرها للقدر كما تُفتح زهرة للشمس.
﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾
وفي تلك اللحظة بالذات
نفخت أنا الريح نفخة واحدة خفيفة جداً ، لم تُسمع ولم تُرَ
لكنّها كانت هي النفخة التي أمر الله بها
فاستقرت الروح في رحم مريم بلا ألم ولا حركة تُذكر
وولدت فيها كلمة الله قبل أن تُولد في الدنيا.
ثم خرج جبريل ، وتركت مريم وحدها في المحراب الشرقي
لكنها لم تعد وحدها
فقد صارت تحمل في أحشائها آية للعالمين.
أنا الريح التي كنت شاهدة على البشارة
وكنت أداة النفخة لتي لا يعلم بها أحد
فصرت من ذلك اليوم أحمل في صدري سراً ثقيلاً خفيفاً
سرّ الحملِ العجيب الذي بدأَ في لحظة سكون تام
وانتهى بقول مريم في قلبها : ‘ كُن ‘ ، فكان.
حملت مريم في أحشائها ما لا يُحمل
فانتبهت إلى همسات الناس ونظراتهم
فخرجت من المحراب الشرقي في سكون الليل
وأنا الريح أمشي أمامها خطوة ، أُبعد عن وجهها غبار الطريق
وأُخفض صوت خطواتها حتى لا يسمعها أحد.
سارت إلى الناصرة ،
حيث كان يوسف النجار ينتظر خطيبته في صمت وخشية
فلما رآها حاملاً ارتاب في نفسه
وأراد أن يسرحها سراً لأنه كان باراً
لكن المَلك ظهر له في الحلم وقال له ما أمره الله به
فاستيقظ يوسف وقبل الأمر بقلب مطمئن.
ثم جاء الأمر الروماني بالإحصاء
فكان لابد ليوسف ومريم من السفر إلى بيت لحم
مدينة داود ، لأنهما من بيت داود وصُلبه.
خرجا معاً في طريق طويل شاق
مريم على حمار صغير
ويوسف يقود الحمار بخطى متئدة
وكنت أنا الريح أمشي إلى جانبهما طوال الطريق
أُخفف عن مريم حرّ النهار وبرد الليل
أُبعد ذباب الصيف عن وجهها
وأُدخل في صدرها نسمات باردة كلما أحست بثقل الحمل.
كانت مريم صامتة معظم الوقت
تضع يدها على بطنها وتسبح بصوت لا يسمعه إلا أنا
وكنت أسمع في صدرها نبض طفل لم يُولد بعد
نبضاً هادئاً كأنه يقول : ‘ لا تخافي ‘.
عبرنا ودياناً وتلالاً، مررنا بقرى لا يعرف أحد اسمها
وكلما مرت قافلة أخرى
كنت أُثير غباراً خفيفاً يُعمي العيون قليلاً
حتى لا يُلاحظ أحد بطن مريم الذي بدأ يظهر.
وفي الليل ، كنت أُدخل في نوم يوسف راحة عميقة
وفي نوم مريم أحلاماً مضيئة لا تُنسى.
و بلغنا مشارف بيت لحمه ، والشمس تغرب خلف التلال
وكان المدخل مزدحماً بالمسافرين والجنود
فلم يجد يوسف مكاناً في الخان.
وكنت أنا الريح أعلم أن ساعة الولادة قد اقتربت
فحملت رائحة البرد والسكون إلى المغارة البعيدة قليلاً
وأعددت فيها فراشاً من الهواء النقيّ والدفء الخفي
أنا الريح التي مشت مع مريم ويوسف
كل الطريق من الناصرة إلى بيت لحم ، حارسة صامتة
خادمة لا تُرى ، حتى إذا ما وصلا إلى المغارة
وقفت عند الباب أنتظر لحظة المخاض
لأهز النخلة التي لا نخلة فيها
ولأشهد ميلاد من سيُكلم الناس في المهد وكهلاً.
جلست مريم على حجر بارد ، وأمسكت بطنها بكفيها
ثم بدأ المخاض يأخذها ، فانحدرت إلى جذع نخلة يابسة
﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنْسِيًّا﴾
فارتفع صوتها ضعيفاً حزيناً في الظلام
صوت فتاة وحيدة لا أحد معها سوى يوسف الصامت المذهول ثم سمعت صوتا من تحتها ، من حيث لا يُرى :
﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾
فمدّت مريم يدها الضعيفة إلى الجذع اليابس
فاهتززت أنا الريح مكانها ، هززت الجذع هزاً واحداً خفيفاً
فسقطَ الرطب الجني بين يديها
حبات طرية حمراء كأنها لم تُقطف منذ لحظة
مع أن النخلة كانت ميتة منذ سنين.
فأكلت وشربت ، واستراحت قليلاً
ثم جاءتها ساعة الولادة الحقيقية.
فوضعته في لحظة لا زمن فيها
ولد نقي طاهر لا يبكي كبقية الأطفال
بل فتح عينيه ورأى أمه
فابتسم ابتسامة صغيرة أضاءت المغارة كلها
فارتجفت أنا الريح فرحاً حتى كدت أصير عاصفة.
لفته مريم في خرقة بيضاء بسيطة
ثم خرجت من المغارة قليلاً
فوجدت السماء قد انشقت عن نجم لم يُرَ مثله من قبل
أنا الريح التي شهدت ميلاد عيسى ابن مريم
في مغارة لا أحد فيها سوى الله
فصرت من تلك الليلة أحمل في صدري
رائحة ذلك الرطب إلى يوم القيامة
رائحة ليلة الميلاد.
أنا الريح التي شهدت كل شيء من أول نَذر إلى آخرِ رَطبَة سقطت على يدي مريم.
من يومها وأنا أطوف في الأرض كلها
أدخل البيوت من شقوق الأبواب
أمر فوق وجوه النائمين ، أحملُ معي رائحةَ ذلك الرطبِ الجني ورائحة دموع مريم الممزوجة بالفرح.
وكلما سمعتم في ليلة الميلاد صوت ريح خفيفة
تدور حول بيتكم ، أو شعرتم بنسيم بارد
يدخلُ من نافذة مغلقة ، فاعلموا أنني أنا
استنشقوني ، ففي بقية من رائحة تلك الليلة
رائحة النور الذي سُبق بنور
أنا الريح التي لم تنته مهمتها
وسأبقى أطوف إلى أن يُنفخ في الصور
فإذا سمعتم يوماً ريحاً تدور
حول كنيسة أو مسجد أو قلب مؤمن
افتحوا أبوابكم ، فأنا قادمة من بيت لحم
حاملة في صدري رائحة مريم وابن مريم معاً
طارق غريب – مصر
يا كل الناس الطيبين ، كل عام وأنتم طيبين

sdytm165@gmail.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *