
الدواء بين الاحتياج والقدرة الشرائية
كتب / طارق غريب – مصر
حين يُنير الصباح ، يستيقظ العالم على تناقض يُدمي القلب : أدوية تُنتج بكميات هائلة ، تُطور بمليارات الدولارات ، وتُباع بأثمان ترفعها الشركات إلى السماء ، بينما يموت ملايين الأطفال والكبار لأن تلك الأدوية لا تصل إليهم ، أو تصل بأسعار تُثقل كاهل الفقراء. هذا التناقض ليس قدراً محتوماً ، بل نتيجة نظام يُعطي الأولوية للربح على الحياة.
في تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2025 عن التغطية الصحية الشاملة ، يُظهر أن مؤشر تغطية الخدمات الصحية قد ارتفع من 54 إلى 71 نقطة بين عامي 2000 و2023 ، لكن التقدم تباطأ في العقد الأخير. يُعاني مليارات البشر من صعوبة الوصول إلى العلاجات الأساسية ، ويزداد العبء المالي من الجيب الخاص ، خاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ، حيث يصل الإنفاق من الجيب إلى 40-50% من الإنفاق الصحي الكلي ، مما يدفع ملايين الأسر إلى الفقر أو التخلي عن العلاج.
أما تقرير IQVIA لعام 2025 عن استخدام الأدوية عالمياً ، فيُشير إلى أن الإنفاق العالمي على الأدوية بلغ نحو 1.8 تريليون دولار في 2024 ، ومن المتوقع أن يصل إلى 2.3 تريليون بحلول 2028 ، مدفوعاً بزيادة استخدام الأدوية الجديدة في مجالات السرطان والمناعة والسكري. لكن هذا الرقم يخفي فجوات عميقة : في البلدان المنخفضة الدخل ، يظل الوصول إلى الأدوية الأساسية ناقصاً ، حيث تتوفر الأدوية الأساسية في القطاع العام بنسبة أقل من 80% في معظم المناطق. وفي القطاع الخاص ترتفع الأسعار إلى مستويات تجعلها بعيدة المنال.
دراسة نشرت فيThe Lancet Global Health عام 2024 ، استندت إلى 71 مسحاً في 54 بلداً ، أكدت أن توافر الأدوية الأساسية في القطاع العام تحسن قليلاً بين 2009 و2024 ، لكنها لا تزال دون المستهدف في جميع المناطق. أما في القطاع الخاص ، فإن توافر الأدوية الجنيسة – وهي تلك التي تُنتج بعد انتهاء براءة الاختراع على الدواء الأصلي ، بنفس المادة الفعالة ، بنفس الجرعة ، وبنفس الشكل الصيدلي تقريباً – يكون منخفضاً في بعض البلدان المتوسطة الدخل العليا. والأسعار في الأمريكتين أعلى بنحو 53 مرة من سعر المرجع للأدوية الأصلية. والجنيسة ، رغم أنها مكافئة حيوياً للأصلية وتُمتص في الجسم وتعمل بنفس الطريقة تماماً ، إلا أنها تكون أرخص بكثير ، أحياناً بنسبة 80-90% أقل ، لأن الشركة المنتجة لها لم تتحمل تكاليف البحث والتطوير الأولية ، بل اعتمدت على ما ثبت من فعالية الدواء الأصلي. وفي البلدان النامية ، الأدوية الجنيسة هي عماد الناس ، في الهند مثلاً ، تُنتج شركات ملايين الأقراص الجنيسة التي تنقذ حياة ملايين في أفريقيا وآسيا ، وفي مصر على سبيل المثال ، عندما يصف الطبيب دواء باسمه التجاري ، غالباً ما يقول الصيدلي : ” هناك جنيس أرخص ” ، فيصبح الاختيار بين الأصلي الغالي والجنيس الموثوق.
تقرير مؤشر الوصول إلى الأدوية 2024 ، الصادر عن مؤسسة Access to Medicine ، يُظهر ركوداً عاماً في جهود الشركات الدوائية الكبرى لتحسين الوصول في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ، مع تغطية غير متكافئة للأمراض الـ81 المستهدفة. نوفارتيس تصدرت الترتيب هذا العام ، بفضل استراتيجياتها في الوصول والتسجيل في هذه البلدان ، لكن التقرير يُبرز فجوات في نقل التكنولوجيا والترخيص الطوعي ، خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء ، التي تُعاني من تغطية ضعيفة.
في مجال اللقاحات ، يُظهر تقرير Gavi لعام 2024 أن اللقاحات المدعومة أنقذت 1.7 مليون حياة، وهو رقم قياسي، مع توسع سريع للقاحات الملاريا في 23 دولة أفريقية. لكن التحديات تبقى : 10.2 مليون طفل صفري الجرعات. وانخفاض التغطية في مناطق النزاع مثل السودان واليمن.
أما الأطفال ، فإن تقارير UNICEوWHO تشير إلى أن ملايين الأطفال لا يحصلون على الأدوية الأساسية ، خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء ، حيث يُعاني 1 من كل 7 أطفال من اضطرابات نفسية ، ويظل الوصول إلى علاجات فيروس نقص المناعة البشرية للأطفال محدوداً ، مع انخفاض في عدد الأطفال الذين يتلقون العلاج المضاد للفيروسات بين 2020 و2024.
إن القدرة الشرائية تختلف جذرياً : في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ، تغطي التأمينات والحكومات معظم التكاليف ، فتصبح الأدوية ميسورة. أما في جنوب آسيا وأفريقيا، فيُصبح علاج مرض مزمن مثل السكري أو السرطان عبئاً يُكلف المريض أشهراً من أجره .
منظمة الصحة العالمية تُحدث قائمة الأدوية الأساسية دورياً ، وقد أضافت في 2025 أدوية للأطفال والأمراض المزمنة ، وتدعم مرونة اتفاقية TRIPS للسماح بالترخيص الإجباري في الطوارئ. لكن التقدم في هذا المسار بطيء ، كما أن الشركات تتردد في نقل التكنولوجيا.
الدواء حق إنساني ، لا سلعة تجارية. والعالم ، إن أراد أن ينتصر على المرض ، يجب أن ينتصر أولاً على الجشع الذي يحول دون وصوله إلى من يحتاجه. فحين لا تكتمل الكلمات ، يبقى الألم يصرخ ، والأرواح تُهدر.
طارق غريب. – مصر

