
طارق غريب – مصر
ضوء شديد من الأعلى ، ينزل على امرأة تقف كأنها خرجت للتو من طريق طويل
” ليال ” تقف في منتصف المسرح ، ترفع رأسها ببطء
تتلمّس الهواء ، كأنها تتحسس فجوة في الكون لا يراها سواها
تقول : أنا ليال ، أنا لست امرأة تائهة يا سادة

أنا امرأة تعرف الطريق جيداً
لكنها لا تريد أن تسلكه قبل أن تتأكد
أن قلبها لن يسقط منها في أول منعطف
جئت من زمن لا يتسع لاسمي
ومن مدينة كل شوارعها
تنتهي بباب واحد يغلق في وجهي كلما اقتربت.
سمعت رجلاً يقول يوماً : “ القدر لا يخطئ ”
ضحكت ، فالقدر لا يحتاج أن يخطئ
نحن نفعل ذلك عنه
أحمل حقيبة صغيرة ، فيها ثلاثة أشياء :
قطعة من طفولتي ، ورائحة من يد لم تعد هنا
وسؤال لا يكتمل مهما حاولت أن أتهجاه
تسألون : لماذا وقفت على المسرح؟
لأنني تعبت من أن أكون امرأة شفافة
تمر بين الناس دون أن يلمسها أحد
أريد أن يسمعني أحد
أن يختبر ثقل اسمي حين أنطقه
أن يفهم أن الحياة ليست مواجهة
بين امرأة والحياة ، بل بين امرأة ونفسها
أغلق عيني و أتنفس
وأترك كلمة تسقط من فمي وحدها :
“ لم أعد أخاف ، لكنني ما زلت أتردد ”
تبتسم قليلاً و تنحني للأمام
ثم تمشي خارج الضوء
كأنها دخلت إلى نفسها ، لا إلى الظل
لكن الضوء لا يسمح لها بالرحيل بسهولة
فهي دون أن تدرك ، تركت خلفها أثراً
يشبه الباب الذي ظل مغلقاً في وجهها طويلاً
يعود الضوء ليمسك طرف ثوبها
كأنه يقول لها : “ لم تكملي بعد ”
تتوقف. تلتفت ببطء
تنظر إلى المقعد الخشبي الفارغ في زاوية المسرح
كأنها رأت فيه شخصاً كان يجلس
هناك منذ أعوام ولم يغاد
تمشي نحوه بخطوات حذرة
وتجلس كما تجلس امرأة
تضع أثقال تاريخها على ركبتيها
تزيل خصلة شعر وقعت على جبينها
ثم ترفع رأسها وتتابع الكلام
هل تعرفون ما هو أصعب من الفقد؟
أن تفقد شيئاً ، ثم تكتشف أن الفقد لم يكن في الشيء
بل فيك أنت
كل مرة خرجت فيها إلى الشارع
كانت المدينة تنظر إلي بانتظار بارد
كأنها تختبر قدرتي على النجاة من اليوم التالي
ومع ذلك ، كنت أعود إليها كل ليلة
لا لأنني أحبها ، بل لأنني لا أعرف مدينةً أخرى
تتحمل هذا الكم من التناقضات في صدري
أنا امرأة تتردد ، نعم
لكن ترددي ليس ضعفاً
التردد هو محاولة أخيرة كي لا أكرر الألم ذاته
ثم تقف. تضع الحقيبة على الكرسي
تفتحها ببطء ، وتخرج قطعة طفولتها
معجون صلصال أزرق ، يابس منذ زمن
لكن لونه ما زال يحتفظ بولادة لم تكتمل
ترفعه نحو الضوء :
هذا اللون كان علتي الأولى
كنت أصنع منه أحلاماً صغيرة
كلما جف قلت : “ ربما تجف الأحلام لتعود أصلب ”
لكنني كبرت , وعرفت أن الجفاف ليس صلابة
بل دعوة سرية للتخلي
تعيده إلى الحقيبة
تخرج الرائحة من اليد الغائبة
منديل صغير ، نظيف جداً لدرجة تشعرك
أنه احتفظ بذكرى خفيفة هو نفسه لا يتذكرها
ليال : هذه اليد لم تتركني ، لكن الحياة سرقتها
أحياناً أرى شكلها في الهواء
تمتد نحوي و تلمس كتفي ، ثم تختفي
كما يختفي حلم استيقظت منه
قبل أن تصل إلى نهايته
ثم تخرج السؤال ، السؤال الذي لا يكتمل
ورقة بيضاء ، لا شيء مكتوب عليها
تضحك : هذا أنا.
سؤال بلا كتابة ، درب بلا حجر
امرأة بلا تفسير جاهز
ثم تقف في منتصف المسرح
تفتح ذراعيها كمن يتلقى شيئاً لا يرى :
أتعلمون ماذا أريد؟ ، لا أريد نهاية سعيدة
ولا بداية استثنائية ، أريد فقط لحظة صادقة
لحظة واحدة أشعر فيها أنني
لستُ ضيفاً عابراً في حياتي.
ثم تخفت الإضاءة قليلاً
تتغير ملامحها كما لو أنها عبرت سنوات في دقائق
وتهمس : أنا ليال ، امرأة تسأل ولا تنتظر جواباً
امرأة تقف في الضوء لتتعلم كيف تعود إلى نفسها
حين ينطفئ الضوء
ثم تتنفس آخر نفس عميق ، وتغادر
لكن هذه المرة كمن يسير إلى
قدر لن يغلق الباب في وجهه ستار

