Uncategorized

النمسا تؤكد التزامها العالمي في مواجهة الجريمة المنظمة


هالة المغاوري فيينا
في عالم يزداد فيه العنف المنظّم، والفساد العابر للحدود، وتنامي شبكات الجريمة الاقتصادية والرقمية، تبدو النمسا اليوم أكثر وعيًا بدورها الدولي كدولة محايدة، لكنها أيضًا فاعلة، تسعى لأن تكون منصة لتقريب وجهات النظر وإعادة بناء الثقة في منظومة القانون الدولي.


مشاركة الرئيس النمساوي إلى جانب نظيره الإيطالي في الفعالية الرفيعة التي نظمها مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) في فيينا، بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، لم تكن مجرد حضور بروتوكولي. بل كانت رسالة سياسية ودبلوماسية واضحة: أن النمسا ترى في مكافحة الجريمة المنظمة جزءًا من مسؤوليتها الدولية في صون السلم والأمن العالميين.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتبط اسم النمسا بمفهوم “الحياد الإيجابي”

وهو حياد لا يعني الانعزال، بل المشاركة الفاعلة في الوساطة والدبلوماسية المتعددة الأطراف. وفي هذا الإطار، أصبحت فيينا منذ السبعينيات مقرًا لأحد أهم مكاتب الأمم المتحدة في العالم، حيث يستضيف مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة (UNODC) إلى جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، ومكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي (UNOOSA)، وغيرها من الهيئات.
هذا التجمّع الأممي جعل من فيينا عاصمة القانون الدولي والتعددية الحديثة، ومركزًا لصياغة الاتفاقيات التي تحكم أمن البشرية وسلامتها، بدءًا من الطاقة النووية وصولًا إلى مكافحة الجريمة المنظمة والإتجار بالبشر.
الفعالية الأخيرة جاءت بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، وهي لحظة مراجعة شاملة:
هل استطاع العالم فعلاً الحد من تمدد الجريمة المنظمة؟
وهل تمتلك الدول الإرادة والآليات لمواجهة شبكات تزداد تعقيدًا، وتتحرك بسهولة بين القارات، وتموّل نفسها من الاقتصاد غير المشروع؟
الحقيقة أن الجريمة اليوم لم تعد فقط “مشكلة أمنية” بل تحوّلت إلى تحدٍ اقتصادي وسياسي، يتشابك مع قضايا الفساد، وغسل الأموال، وتمويل الإرهاب. ومن هنا تأتي أهمية موقع النمسا كدولة تحتضن الحوار بدل الصراع، وتسعى لبناء تحالف دولي قائم على العدالة لا على القوة.
ما يميز النمسا عن غيرها، أنها لا تتحدث بلغة المصالح وحدها، بل بلغة المسؤولية الأخلاقية والسياسية. فهي الدولة التي استطاعت أن تظل بعيدة عن الاستقطاب الدولي، ومع ذلك تلعب دورًا محوريًا في إدارة النقاشات الكبرى حول السلم والأمن.
وجود UNODC في فيينا ليس مصادفة، بل اعتراف بدور النمسا كمحطة للثقة الدولية، حيث يمكن للدول المختلفة — حتى المتخاصمة — أن تجلس على الطاولة ذاتها.
وفي وقت تتصاعد فيه الجريمة المنظمة، ويزداد استخدام التكنولوجيا في شبكات الاتجار بالبشر والتهريب الإلكتروني وغسل الأموال، فإن دعم النمسا للاتفاقيات الأممية وتعاونها الوثيق مع الاتحاد الأوروبي يُعزّز فكرة أن الأمن الإنساني لا يتحقق إلا بالتعاون، لا بالمواجهة.
إن الدور الذي تؤديه فيينا اليوم هو أبعد من مجرد استضافة لمقرات الأمم المتحدة. إنها تُقدّم نموذجًا لدولة صغيرة بحجمها الجغرافي، لكنها كبيرة بثقافتها السياسية ومسؤوليتها الإنسانية.
وفي عالم مضطرب، تبقى النمسا — من خلال مؤسساتها الأممية — صوت العقل، وجسر القانون، وذاكرة الإنسانية في مواجهة فوضى الجريمة المنظمة.


في عالمٍ يتبدّل بسرعة، تظل النمسا مثالاً على الحياد الواعي والمسؤولية الهادئة.
فهي لم تختبئ خلف شعار “الحياد”، بل حوّلته إلى أداة لبناء الجسور بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب، وبين المصالح المتعارضة في عالم يموج بالاضطراب.
ربما ما تحتاجه الإنسانية اليوم ليس مزيدًا من العقوبات أو الجدران، بل مساحات للحوار والاعتدال كتلك التي تتيحها فيينا منذ عقود.
ولهذا، فإن الحفاظ على دور النمسا كمركز للتوازن والوساطة هو ضرورة عالمية، لا مجرد امتياز وطني .

osama elhaowary

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *