
بقلم : د . هاني المصري
لم تكن خطوة مصر بإزالة الحواجز الأمنية من أمام السفارة البريطانية في القاهرة مجرد إجراء بروتوكولي عابر، بل كانت رسالة سياسية مدوية إلى لندن أولًا، وإلى أوروبا بأكملها ثانيًا.
فالقاهرة التي تحملت طويلًا ازدواجية المعايير الأوروبية في التعامل مع أمن بعثاتها الدبلوماسية، قررت هذه المرة أن تقول بوضوح: المعاملة بالمثل هي القاعدة، ومن يقصّر في حماية الدبلوماسية المصرية، لن ينال حماية استثنائية في قلب القاهرة.
أوروبا تحت المجهر … متى ينتهي الكيل بمكيالين؟
منذ سنوات، تعرضت السفارات والقنصليات المصرية في أكثر من عاصمة أوروبية لمضايقات وتهديدات، وسط صمت وتراخٍ رسمي من حكومات تلك الدول. بريطانيا، التي لطالما تغنت بـ”حماية الحريات”، أغمضت عينيها مرارًا عن تجاوزات ضد البعثات المصرية، وكأن أمن الدبلوماسيين المصريين ليس أولوية.
اليوم، جاء الرد المصري صارمًا: إذا لم توفروا الحماية الكاملة لمقراتنا، فلن نوفر لكم حماية استثنائية فوق ما يفرضه القانون الدولي.
بريطانيا … عقدة التاريخ التي لا تُشفى
تاريخ مصر مع بريطانيا ليس مجرد صفحات استعمارية قديمة، بل جرح مفتوح لم يلتئم في ذاكرة الإمبراطورية التي لم تغفر لمصر دورها الريادي في إنهاء نفوذها.
فمنذ أن دعمت القاهرة حركات التحرر الوطني في أفريقيا والشرق الأوسط، وأسهمت في طرد الاحتلال البريطاني والفرنسي من أكثر من دولة، لم تهدأ الضغينة البريطانية تجاه مصر.
لقد رأت لندن في القاهرة دائمًا المحرك الرئيسي لهدم المشروع الاستعماري الذي كانت بريطانيا تعتبره تاجًا على رأسها. وما زال هذا الإرث التاريخي يُلقي بظلاله على السياسة البريطانية حتى اليوم، في شكل مواقف متشددة، وممارسات تحمل في طياتها كراهية دفينة.
مصر اليوم … سيادة لا تُشترى ولا تُباع
الخطوة المصرية الأخيرة ليست فقط إجراءً أمنيًا، بل هي تجسيد لسياسة خارجية واثقة. مصر تقول بوضوح إنها لا تقبل أن تُعامَل كدولة من الدرجة الثانية، ولا تسمح أن تُستخدم أراضيها كساحة امتياز لدبلوماسيين أجانب، بينما دبلوماسييها يتعرضون للإهمال والاستخفاف في الخارج.
إنها رسالة تضع أوروبا أمام مسؤولياتها: إما احترام السيادة المصرية وحماية بعثاتها، أو الاستعداد لمعاملة بالمثل قد تكون أكثر صرامة في المستقبل.
مصر تفرض قواعد جديدة للّعبة
بهذه الخطوة، أثبتت مصر أنها ليست لاعبًا يكتفي بردود الفعل، بل صانعًا للمعادلات.
لقد خاطبت أوروبا بلغة يفهمها الجميع: لغة المصالح والندية، بعيدًا عن المجاملات الدبلوماسية. وأكدت أن زمن الاستعلاء الاستعماري قد انتهى، وأن مصر التي قهرت الإمبراطوريات القديمة، قادرة اليوم على فرض احترامها على العالم المعاصر.
وختاماً يا سادة
إن رسالة مصر اليوم واضحة لا تحتمل التأويل: مصر لا تُساوَم… مصر لا تُهدَّد… مصر لا تخضع لضغوط. سيادتها خط أحمر لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه، وقرارها الوطني المستقل ليس محل نقاش ولا خضوع لإملاءات.
من يتوهم أن مصر قد تنحني فهو لا يعرف تاريخها، ومن يظن أن الضغط قد يُغير مسارها فهو يجهل حاضرها.
لقد حطمت مصر قيود الاستعمار، وأسقطت أوهام الهيمنة، وستبقى كما كانت دائمًا: دولة حرة، صاحبة قرار، عصيّة على الانكسار، فوق كل المساومات والضغوط.