Uncategorized

وأخيرا… التقينا


شيماء حسين/العراق

لم يكن لقاءً عاديًا، بل موعدًا كُتِب في هوامش القدر بخطٍّ من دمٍ وضوء.
لا رسائلَ معلّقة، لا أعذارَ مؤجَّلة، لا مقاعدَ فارغة بيننا. التقينا هناك في نقطةٍ بين الحياة والموت، حيث لا يجرؤ الندم على الاقتراب، وحيث لا تخوننا الكلمات.
كانت واقفةً عند ضفاف النهر الذي لا يُرى، تلامس الماء الذي لا يبلّل. شعرُها منسدلٌ كالماضي، ينساب على كتفيها كما تنساب الذكريات من ذاكرةٍ أنهكها الشوق. وعيناها آه من عينيها، كم مرّةً ضيّعتُ نفسي فيهما ثم عدتُ ناقصًا، كأنّ قلبي ترك جزءًا منه هناك.
ابتسمتْ، فاهتزّ المكان. حتى الغيم الذي كان ساكنًا، تحرّك كما لو أنه أراد أن يراها تبتسم من جديد.
ابتسم قلبي معها، وكأنّ كلَّ وجعٍ عشته كان مجرّد طريقٍ وعرٍ يقودني إلى هذه اللحظة.
اقتربتُ منها بخطواتٍ مرتجفة، لا خوفًا بل دهشة. قلتُ لها بنبرةٍ لم تعرفها من قبل
كم مرّةً متُّ في غيابك؟ وكم مرّةً عدتُ إلى الحياة على أمل هذا اللقاء
ضحكت ضحكتها كانت تشقّ الصمت كما يشقّ النور ظلمة المقابر.
قالت وهي تنظر في عينيّ بجرأةٍ ناعمة:
وكم مرّةً عشتُ موتي، وأنا أراك تمرّ في الذاكرة كالعطر، دون أن تلمسني
كنتِ بعيدة، والبعد كان سجنًا بلا جدران.
لا، كنتَ أنت السجن يا حبيبي وأنا قضيتُ عمري أبحث عن مفتاحك.
ساد صمتٌ ثقيل لكنه جميل، كأنّ الزمن أوقف أنفاسه احترامًا لنا.
مددتُ يدي، لامستُ يدها كانت باردة، لكنها لم تكن يد ميتة. بل يد من تجاوز الموت، واحتفظ ببعض الدفء من العالم الآخر.
عانقتها لا خوف، لا خجل، لا وقتَ يُحاسبنا.
عانقتها كما يُعانق الغريقُ آخر نسمةِ هواء.
وهمستُ في أذنها للموتِ فضلٌ لا يُنكَر وحده جمعنا وللأبد.
ابتسمت بخفوت، وقالت
وهل ظننتَ أن الموت نهاية؟ إنه فقط الباب الذي لم نجرؤ على فتحه ونحن أحياء.
وفجأة تغير كلّ شيء. الأرض من تحتنا بدأت تذوب كمرآةٍ تنكسر.
السماء صارت قريبة جدًا، والنجوم تلتفّ حولنا كأقمارٍ صغيرةٍ تبارك اللقاء.
لكن وجهها بدأ يبهت، وصوتها يتلاشى شيئًا فشيئًا.
صرختُ
لا تذهبي، لم أركِ بعد كما أريد! لم أعتذر بعد عن كلّ الغياب!
قالت بصوتٍ خافتٍ يشبه النسيم
لا تبحث عني في السماء ابحث عني في كلّ لحظةٍ صدقتَ فيها الحب. هناك سأكون.
ثم اختفت.
وبقيتُ أنا في منتصف الطريق، لا حيٌّ تمامًا، ولا ميتٌ تمامًا.
وحين نظرتُ إلى الماء، رأيتُ وجهي ووجهها ينعكسان معًا
لكن انعكاسها هو الذي حرّك شفتيه وقال لي
اللقاء القادم لن يكون صدفة، بل اختيارًا.
ومنذ تلك الليلة، كلّما نظرتُ إلى القمر، رأيتُ نصف وجهها يبتسم لي
كأنّها ما زالت تنتظرني هناك، في الضفة الأخرى من الحلم.

osama elhaowary

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *