قصص قصيره

من سلسلة دماء على البالطو الابيض تحاليل على الطريق

حسين إسماعيل

كان مساء الثلاثاء في حيٍّ شعبي مزدحم، حيث تتكدّس العيادات الخاصة فوق محلات البقالة والمطاعم الصغيرة، لوحة مضيئة بلون أزرق باهت كُتب عليها بخط متكلف: “عيادة الباطنة – د. مجدي نظمي” على السلم المؤدي للطابق الأول، يجلس عشرات المرضى على كراسٍ بلاستيكية متراصة، كلٌّ منهم يحمل ملفًا أو كيسًا صغيرًا مليئًا بأوراق وأدوية سابقة
أنا “محمود”، موظف في شركة نقل صغيرة، أبلغ الأربعين، كنت أعاني منذ أسابيع من إرهاق غريب وضيق نفس متكرر نصحني صديق أن أذهب لدكتور مجدي، لأنه “بيفهم وبيخلص”. دفعت الكشف مقدمًا عند السكرتيرة: مائة وخمسون جنيهًا، ورقة مطبوعة عليها رقم دوري، جلستُ خارج العيادة على السلم في انتظار اسمي


دخلت العيادة بعد ساعة ونصف، جدرانها مطلية بطلاء كريمي، تتدلّى منها شهادات مؤطرة: بكالوريوس، ماجستير، زمالة، كلها أسماء أجنبية وصور توقيعات وزخارف، جلس الطبيب على مكتبه الخشبي خلف جهاز كمبيوتر حديث، رفع نظره إليّ سريعًا، ثم أعاد عينيه للشاشة:
“إيه الشكوى؟”


“تعب وإرهاق يا دكتور… وضيق نفس من أسبوعين”
طلب بعض الأسئلة الروتينية، استمع سريعًا إلى صدري، ثم قال: “محتاج نعمل شوية تحاليل شاملة… وظائف كبد، كلى، صورة دم كاملة، سكر صايم وفاطر وتراكمي، دهون، فيتامين د، غدة درقية
كتب الروشتة بخط متمايل، ثم مدّها نحوي:
“تعملهم في معمل النور… اللي جنب العيادة هنا… تطلع النتائج بكرة. هاتهم وأنا أشوفك”


نظرت إلى الورقة، كان اسم المعمل مكتوبًا بخط بارز. سألت: “ممكن أعمل التحاليل في معمل تاني قريب من بيتي؟
ابتسم ابتسامة جانبية، وقال: “هو طبعًا ينفع… بس معمل النور مضمون… وبيدّيني الخصم ليك… ومش هتتعب في الدقة
خرجتُ من العيادة وفي داخلي ارتباك. دخلت معمل النور المقابل. واجهني موظف استقبال أنيق بابتسامة مرحّبة: مع حضرتك روشتة الدكتور؟ أهلاً… دي باقة التحاليل دي سعرها ٢٢٠٠ جنيه، لكن عشان جاي من عند د. مجدي، هنعملك الخصم تبقى ١٩٠٠ جنيه بس


أخرجت محفظتي، شعرت بالاختناق، راتبي الشهري لا يتجاوز ٤ آلاف، سألت: “هو ممكن أعمل بس صورة الدم والسكر الأول؟” قال الموظف بابتسامة أوسع: “لا يا فندم، الدكتور كاتب كل ده… ولو عملت جزء بس ممكن تضطر تعيد تاني الأفضل تكمل الحزمة”


دفعت المبلغ على مضض، وصوت غناء داخلى يداعبنى ليخفف عنى: ” حزمة، يا حزمة، يا أبو حزمة ” سحبوا دمي في أنابيب زجاجية ملونة. وأنا أغادر، رأيت طبيب المعمل يربّت على كتف موظف الاستقبال ويغمز بعينه: “الحمد لله الليلة ماشية كويس”
الحلقة الخفية


في اليوم التالي عدتُ لأستلم النتائج. كانت الأوراق مرتبة في ملف أنيق مختوم بختم المعمل، دفعت رسوم طباعة إضافية خمسين جنيهًا، توجهت للعيادة مرة أخرى، دفعت كشفًا جديدًا للمتابعة (مائة جنيهًا)


جلس الطبيب يراجع النتائج سريعًا:
“آه… فيه ارتفاع بسيط في الكوليسترول، فيتامين د ناقص شوية… محتاج علاج بسيط، وممكن تتابع معانا”
كتب لي أدوية: فيتامينات مستوردة، دواء للدهون، وأشار إليّ بابتسامة: “هتاخدهم من صيدلية اللوتس… اللي تحت العيادة، عندهم الأصلي مضمون”


خرجتُ وأنا أحمل كيس الدواء من الصيدلية نفسها، فاتورة جديدة بـ ١٢٠٠ جنيه. في رأسي دوار، في قلبي سؤال: هل كنت مريضًا حقًا أم مجرد زبون في سلسلة طويلة؟
أصوات في الممر
حين جلست أستريح على الرصيف المقابل، اقترب مني شاب نحيف، بدا كأحد عمّال المعمل. قال همسًا: “متزعلش… كلنا كده. الدكتور ليه نسبة على كل حالة يحولها. كل تحليل، كل دواء، ليه عمولة. وإحنا غلابة… بنمشيها”
نظرت إليه بدهشة. سألته: “إزاي يعني؟”
قال: “كل دكتور عندنا متفق مع معمل أو اتنين. بيحول الناس ليهم، وياخد نسبة ٢٠ أو ٣٠٪. نفس الكلام مع مراكز الأشعة، حتى الأدوية، في صيدليات معينة بيدوهم عمولة. وإحنا في النص… المريض بيدفع”
بالله عليك …
ضحك ضحكة قصيرة كأنها سخرية من نفسه: “عارف بنسمي ده إيه بيننا؟ بنسميه طريق التحاليل، زي طريق إجباري تمشي فيه بالعافية”
محاولة مقاومة


عدت إلى البيت، حكيت لزوجتي. لم تصدق في البداية. قالت: يمكن هو فعلاً خايف عليك. يمكن التحاليل ضرورية
لكنني في داخلي شعرت بأنني ضُحك عليّ، بعد أسبوع، نصحتنى جارتي (وهي ممرضة قديمة) أن أراجع دكتور آخر في مستشفى حكومي. ذهبتُ، جلستُ على مقعد خشبي طويل وسط الزحام. كشف الطبيب عليّ بعناية حقيقية، طلب فقط صورة دم وسكر. أعدتها في معمل حكومي بـ ١٢٠ جنيه، النتيجة: كل شيء طبيعي تقريبًا، مجرد أنيميا بسيطة ونقص تغذية
شعرت كأنني خرجت من كهف. أعدت بيدي الأوراق البسيطة، وصدري ممتلئ بالغضب
الدوامة


لكن القصة لم تنته، بعد شهر، زميل في العمل حكى لي أنه ذهب لعيادة د. مجدي. نفس السيناريو: روشتة طويلة، تحويل لمعمل النور، فاتورة ٢٢٠٠. قلت له: “خد بالك… دي لعبة.” لكنه لم يصدقني. قال: “يمكن حالتي محتاجة أكتر منك”
أدركت أن اللعبة أكبر من شخصي. هي منظومة كاملة:
الطبيب يربح من التحويل.
المعمل يربح من الحزمة.
الصيدلية تربح من الأدوية الموصوفة.
المريض يخسر ماله وصحته وأمله.
مشهد أخير


في أحد الأيام، وقفت أمام العيادة أنظر إلى اللافتة الزرقاء. رأيت المرضى يدخلون ويخرجون مثل نهر لا ينتهي. تذكرت وجه الطبيب، ابتسامته الجانبية، جملة الموظف: “الخصم عشان جاي من عند الدكتور”


رفعت عيني إلى اللافتة، شعرت أن حروفها تقطر ببطء دمًا لا يُرى. قلت في نفسي: “هذه ليست عيادة… هذا طريق التحاليل… طريق يُرسم بالبالطو الأبيض، لكنه مفروش بجيوب الفقراء”


مضيت في الشارع، ضوء أعمدة الإنارة يتمايل، وصوت الباعة الجائلين يختلط بأنين داخلي. كنت أعلم أن حكايتي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكنها جزء من كتابٍ أكبر اسمه: دماء على البالطو الأبيض

sdytm165@gmail.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *