
بقلم: ناصر السلاموني
لم يكن اختيار إسرائيل لاسم “عربات جدعون” لعمليتها الأخيرة في غزة اختيارًا عابرًا، بل هو استدعاء لرمز توراتي قديم من سفر القضاة، حيث يُروى أن (جدعون بن يوآش) قاد ثلاثمائة رجل فقط لهزيمة جيش( المديانيين )الضخم المدجج بالجمال والعربات الحربية. كانت القصة في سياقها الديني رمزًا لانتصار القلة المؤمنة بالإيمان والتكتيك على الكثرة الغاشمة، ورسالة لليهود آنذاك بأن النصر يتحقق بإرادة الله لا بكثرة العدد والعتاد.
إلى هنا والأمر جيد ولكن عند النظر إلى التاريخ والآثار، لا نجد أي دليل مستقل يؤكد وجود (جدعون) أو وقوع تلك المعركة. فالمديانيون كشعب لهم وجود تاريخي مثبت في شمال الجزيرة العربية وجنوب الأردن، لكن الصراع مع (جدعون) يظل في نظر المؤرخين أقرب إلى الأسطورة أو الملحمة القومية منه إلى حدث تاريخي موثق. ومع ذلك، تحولت القصة إلى رمز يُستدعى لتبرير سياسات وممارسات في عصور لاحقة.
اليوم، تستحضر إسرائيل هذا الرمز تحت اسم “عربات جدعون” لتغطي به على واحدة من أشرس عملياتها ضد غزة. والمفارقة أن إسرائيل الآن ليست هى القلة الضعيفة، بل القوة النووية الوحيدة في المنطقة، المدعومة بلا حدود من الولايات المتحدة وأوروبا، وهي تقصف قطاعًا محاصرًا يسكنه أكثر من مليوني إنسان معظمهم مدنيون.
هذه الخزعبلات الإسرائيلية من رسم النيل والفرات على علمهم وسرقتهم النجمة السداسية والإدعاء أنها نجمة داود وكذلك الشمعدان كل ذلك يكشف أنهم يسرقون كل شيء حتى الأوطان؛ فالتسمية تكشف جوهر العقلية الإسرائيلية، وهى استخدام النصوص الدينية المزورة في توراة محرفة لتبرير مشروع استعماري توسعي يقوم على القتل والتهجير وتدمير البنية التحتية لفلسطين التى رفضوا دخولها زمن موسى عليه السلام ، وهذا منهجهم الذي يسلكونه منذ نشأة إسرائيل حتى الآن تحت رعاية الفيتو الأمريكي والدعم الأوروبي.
ولفهم هذا السلوك الهمجي المغطى بالتوراة المزورة لا بد من العودة إلى (الصهيونية العالمية). فمنذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر صاغت الصهيونية مشروعًا لا يقتصر على إقامة وطن قومي لليهود، بل يتجاوز ذلك إلى السيطرة السياسية والاقتصادية على المنطقة، وجعل إسرائيل رأس حربة في قلب الشرق الأوسط بل ولاية أمريكية تنفذ مخططات امريكا وأوربا في البلاد العربية. هذا المشروع ما كان له أن ينجح لولا الدعم الغربي اللامحدود، فقد وفرت له أمريكا المال والسلاح والتكنولوجيا، ومنحتها أوروبا الغطاء السياسي والدبلوماسي بدافع عقدة الذنب من الهولوكوست تارة، وبمنطق التحالف الاستراتيجي تارة أخرى، بينما يقابله الصمت العربي حرصًا على العلاقات العربية الأوروبية والأمريكية.
هكذا تحولت إسرائيل من محتل جاء لفيفا إلى أرض وشعب فاستباحهم إلى قوة فوق القانون الدولي بمساندة بريطانيا وأمريكا، نعم قوة غاصبة محتلة تمارس ما تشاء من جرائم حرب وفصل عنصري، وهي مطمئنة أن أحدًا لن يحاسبها. والأنكى أن هذا كله يجري وسط صمت عربي و اكتفت جامعة الدول العربية بالبيانات والشجب، بينما هرعت بعض الدول إلى التطبيع وبهذا تمنح إسرائيل شرعية إضافية على حساب الدم الفلسطيني.
إن الصمت لا يحمي الأوطان، بل يفتح شهية المعتدي على المزيد، والتاريخ شاهد على أن الاستعمار لا يوقفه إلا مقاومة صلبة ووعي جماعي واذكركم بخطاب النتنياهو الذي قال فيه أن إسرائيل الكبرى استجابة لأوامر إلهية.
إن “عربات جدعون” في صورتها الحالية ليست حكاية عن قلة مؤمنة انتصرت على كثرة كما يزعمون في توراتهم المزيفة، بل قصة قوة غاشمة تستعير من الأساطير ما تبرر به إبادة شعب مسالم أعزل بأكمله.
وأقواها وأنا في قمة التأكد مهما حاولت إسرائيل أن تبني شرعيتها على النصوص والدعم الغربي والسلاح الفتاك، ستبقى فلسطين شاهدة على أن القوة لا تسلب حقًا، وأن الشرعية لا تُولد من فوهات المدافع. فكما سقطت إمبراطوريات الاستعمار القديم رغم جبروتها كالفرس والروم والمغول والصليبيين، ستسقط إسرائيل يومًا، لأن إرادة الشعوب لا تُهزم، ولأن التاريخ لا يرحم من بنى مجده على دماء الأبرياء، ولأن هذا وعد الله ولا يخلف الله وعده.