
كتب : طارق غريب
في أعماق الجسد ، حيث يرقص الوجود في توازن دقيق بين الحياة والفناء ، يطل السرطان كعدو خفي ، يتمرد على قوانين الخلايا ، ينسى معنى الموت المبرمج ، ويبني إمبراطوريته من التمرد والانتشار. هو ليس مرضاً واحداً ، بل سيمفونية من الاضطرابات الجينية ، تتحول فيها الخلية السليمة إلى كائن غازٍ ، يأكل من الجسد ويبني من رماده قلاعاً جديدة تُدعى النقائل.

تحت المجهر ، تظهر الخلايا السرطانية ككائنات غريبة، مشوهة الأشكال ، تغزو الأنسجة المحيطة بلا رحمة ، كأنها جيش يقتحم مدناً هادئة. تراها تتكاثر بلا هوادة ، تتحد مع محيطها وتستحكم على الموارد ، حتى تصبح أكثر قوة مع كل دورة انقسام. وكأن الجسد يصبح ساحة حرب ، والدماغ مراقباً عاجزاً عن التدخل.
أسباب السرطان متعددة ، كالرياح التي تهب من كل اتجاه : طفرات جينية موروثة، أو مكتسبة من التدخين الذي يُشعل ناراً في الرئتين ، أو التعرض للإشعاعات والمواد الكيميائية ، أو فيروسات خبيثة كالورم الحليمي البشري ، أو حتى الشيخوخة التي تجعل الخلايا أكثر عرضة للخطأ. كل سبب يترك أثره الخاص ، ويزيد من تعقيد المعركة. وفي عامنا هذا ، 2025 ، يقدر العلماء أن يصل عدد الحالات الجديدة في الولايات المتحدة وحدها إلى أكثر من مليوني حالة ، مع وفيات تتجاوز ستمئة ألف ، بينما يتوقع العالم ارتفاعاً مستمراً ، خاصة في البلدان النامية حيث يفتقر الكثيرون إلى الكشف المبكر والعلاج الكافي.
في أجساد الأطفال ، حيث ينبض النمو بالحياة والفضول ، تتربص الطفرات الخفية ، بعض منها موروث من الوراثة ، وبعضها يطفو على سطح الخلايا مع كل انقسام سريع. هنا ، حيث تنمو الخلايا بلا توقف ، يزداد احتمال ارتكاب أخطاء صغيرة تتحول إلى ظلال سرطانية. قد تهمس الفيروسات الخبيثة ، أو تترك الأشعة والمواد الكيميائية أثرها الصامت ، بينما يصبح ضعف المناعة أو اضطرابها أرضاً خصبة لهذه الظلال. كل هذه العوامل تتشابك ، لتخلق تربة معقدة لا يمكن فصل الوراثة عن البيئة فيها ، ولا النمو عن الانقسام ، فتظهر السرطانات ، كأنها تحدٍ مبكر للحياة ، لتختبر إرادة الطفل في مواجهة الظل قبل أن يسطع الضوء.
الأعراض تخدع أحياناً ، تأتي صامتة كاللص في الليل : كتلة غريبة ، سعال مصحوب بدم ، إرهاق يُثقل الروح ، فقدان وزن مفاجئ ، ألم يعض العظام. لكن الانتشار ، ذلك الوحش الأكبر ، يبدأ من الورم الأساسي ، ينتقل عبر الدم أو الليمف إلى أعضاء بعيدة ، يبني مستعمرات جديدة. هنا يظهر الفرق بين من يكتشف المرض مبكراً ، ومن يتركه يتسرب بين ثنايا الجسد بصمت قاتل.
تاريخ السرطان طويل ومعقد ، امتد عبر قرون. قدماء المصريين وصفوه كنموات غريبة داخل الجسد ، وتركوا نقوشاً تشير إلى محاولات جراحية بدائية لاستئصال الأورام. في اليونان القديمة ، كتب أبقراط عن “الأورام الصلبة” وربط بينها وبين التغذية والبيئة. ومع مرور الزمن ، تطور الفهم العلمي ، حتى وصلنا اليوم إلى جزيئات DNA ، وفهم الطفرات الدقيقة التي تحرك هذه المعركة من الداخل.
أما العلاجات ، فهي معارك متعددة الوجوه : الجراحة تستأصل ، الإشعاع يحرق ، الكيميائي يسمم الشر ، والعلاج المناعي يوقظ الجسد ليحارب بنفسه ، كأن يُطلق العنان للخلايا التائية المعدلة (CAR-T) التي أصبحت في 2025 أكثر دقة وأماناً ، خاصة مع الجيل الجديد الذي يُفعل بالموجات فوق الصوتية ليستمر في الهجوم دون إرهاق. هذه المعارك ليست مجرد علم، بل فن يتطلب حساسية عالية تجاه جسد المريض ، توقيت دقيق ، وقراراً بشرياً يوازن بين الأمل والخطر.
وفي هذا العام ، تبرز بشائر الخير كنجوم في سماء مظلمة : لقاحات الـ mRNA الشخصية ، التي أثبتت في تجارب 2025 قدرتها على تقليل عودة الورم بنسبة كبيرة في سرطان الجلد والرئة ، وتتجه نحو الموافقة الواسعة ، ربما تصبح واقعاً تجارياً قريباً. علاجات تستهدف الطفرة KRAS ، التي كانت “غير قابلة للعلاج” لعقود ، أصبحت الآن تُدمر الأورام في ربع الحالات. خلايا مناعية “ذكية” تستمر في القتال لأسابيع ، وأدوية جديدة تمنع الانتشار في سرطان البنكرياس المبكر ، وذكاء اصطناعي يسرع اكتشاف الأهداف الجديدة.
كل هذا التقدم العلمي يتشابك مع قصص إنسانية حقيقية، لأناس قاوموا المرض بلا استسلام. هناك من فقد والديه في صمت ، وهناك من اكتشف الورم بعد ألم طويل، فحارب بالأمل والإرادة. قصص هؤلاء تذكرنا بأن السرطان ليس مجرد خلل في الخلايا ، بل اختبار للصبر ، للوعي ، وللإيمان بأن الحياة تستحق القتال من أجلها.
الوقاية تبقى السيف الأمضى : ابتعد عن التبغ ، مارس الحركة، أكثر من الخضار والفاكهة ، احمِ جلدك من الشمس ، وافحص نفسك بانتظام. فالكشف المبكر يحول السرطان من حكم إعدام إلى معركة يمكن الفوز بها. إن حياتنا اليومية ، عاداتنا الصغيرة ، خياراتنا الغذائية ، ونمطنا في التعامل مع البيئة ، كلها تشكل حصناً ضد هذا العدو المستتر.
وأخيراً، الشريط الوردي يرفرف كرمز للأمل في سرطان الثدي ، يذكرنا بأن الوعي ينقذ الأرواح. في كل عام ، في كل حملة توعية ، تتغير حياة آلاف النساء والرجال والأطفال. في كل ابتسامة تخرج بعد المعركة ، هناك رسالة واحدة : الأمل لا يموت ، حتى لو بدا الظلام دامساً.
السرطان لم يعد قدراً محتوماً ، بل تحدياً يتراجع أمام إرادة العلم والإنسان. في كل يوم من 2025 ، يولد أمل جديد ، ويبقى النور يخترق الظلام ، خطوة بخطوة ، نحو يوم نودع فيه هذا الوحش إلى الأبد ، نحو زمن نحتفل فيه بالحياة أكثر من الخوف ، ونتذكر أن جسدنا ، رغم هشاشته ، يمكن أن يكون حصناً ، وأن العقل والوعي والقلب معاً قادرون على قلب المعركة لصالحنا.
طارق غريب. – مصر

