مقال

شبكة الظلال الجزء الثانى ضمن سلسلة دماء على البالطو الأبيض


د. حسين إسماعيل

ثم جاءت الدورة التدريبية في القاهرة: «رعاية الحالات الحرجة – تنفّس صناعي متقدم – عدوى المستشفيات». ركبت سمر القطار في الفجر، كوب شايٍ يغلي على طرف الكوب، ومقعدٌ بجوار النافذة يريك حقولًا تنكمش وتتمدّد مع خط السكة. في المحاضرة، كانت الكلمات تُحفر في رأسها: السيطرة على العدوى ليست بروتوكولاً فقط، إنها أخلاق. دونت العبارة بخطٍ أكبر، وضحكت في سرّها من بلاغة المحاضر. بعد الظهر خرجت إلى شارع طلعت حرب، اشترت كتابًا مستعملاً عن «الضمير المهني»، رائحة ورقه تشبه الرطوبة النظيفة، وعادت إلى الفندق. في مساء اليوم الثالث، رنّ هاتفها أكثر من مرة ولم تجب. كانت منشغلة بمحاضرة طويلة عن «تعارض المصالح». في الصباح، وهي على وشك العودة، جاءها اتصالٌ من جارتهم «أم مينا»: «سمر! أمك تعبانة جِدًّا، خدناها الاستقبال». انقطع صوت العالم حولها. لملمت حقيبتها بلا ترتيب، نزلت كمن يقفز من سطر إلى سطر في روايةٍ أُسقطت منها صفحاتٌ كثيرة، واستقلت أول ميكروباصٍ تجاه موقف، ومنه تاكسي، ومنه ركضٌ في ممرات المستشفى

في الاستقبال سألت بلهاث: «أمي فين؟» نظر إليها ممرض بوجهٍ مُجهد: «اتحوّلت». تلعثمت: «إيه؟!» قال: «مفيش سرير عناية، خدوها على مستشفى خاص». نفس العبارة التي قالتها عشرات المرات لغيرها، نفس التركيبة اللغوية، نفس البساطة التي تنزلق على القلب فلا تترك خدشًا إلا بعد فوات الأوان. «مَن اللي حوّل؟» لم يجب. في عينيه لمعةُ شيءٍ يعرف ولا يريد أن يقول. خرجت سمر كالمصابة بندبةٍ في رأسها، استوقفَت سيارة وأعطت السائق عنوان المستشفى الخاص الذي يعرفه كل أهل المدينة. دخلت إلى قسم العناية فوجدت أمّها ممددة، أنبوبٌ رفيع في أنفها، قلبٌ يرتجف على شاشة، وأصابعٌ باردة تفتش عن دفءٍ فقدته. أمسكت يدها، وضعت جبينها عليها وبكت حتىَ ظنّت أن البكاء سيصنع مجرىً يخرج منه كل شيء. همست الأم بصوتٍ متقطع: «إنتِ جيتي يا سمر؟» قالت وهي تبتلع الملح: «أنا هنا… سامحيني. سامحيني يا أمي». لم تفهم الأم تفاصيل ما تطلبه ابنتها من غفران، لكن نظرتها – ذات الخيط الرقيق من العتاب – كانت كافية لتهدم داخل سمر مدينةً كاملة من المبررات

عادت في اليوم التالي إلى وحدتها بلا نوم، بلا جلدٍ يحمي الداخل. وقفت عند الباب، توجّهت مباشرةً إلى مكتب حسني. دخلت بلا استئذان. رفع رأسه فوجد في ملامحها وجهًا لم يعرفه من قبل. قالت بصوتٍ باردٍ كمشرط: «اللي حصل مع أمي حصل بإشارتك. أنت والشبكة. وده… مش هيعدّي». ابتسم حسني في البداية كما يفعل عندما تريد ممرضة زيادة في جدولها: «أهدّي، احنا وّدناها مكان كويس». قاطعته: «أمي كانت ممكن تلاقي سرير هنا لو ما كانش فيه تجارة في الأسرة. لو ما كانش فيه تحويلات على مزاجك. أنا عارفة اللعبة كلها». وضع سيجارته جانبًا، صار صوته أقل نعومة: «خلي بالك يا سمر من كلامك. الكل مستفيد هنا. وإنتي أولهم. عندي أظرفك كلها، وعندي رسائلك. لعبة الأبطال فجأة دي مبتاكلش عيش» سكتت، ثم قالت: لو هتحرقني، احرق. بس أنا هطفي الجمر اللي سايبينه للناس

خرجت كمن يخرج من غرفة عمليات. لم تذهب إلى القسم. ذهبت إلى الإدارة، قدمت مذكرةً طويلة كتبتها في الليل بين نوبات البكاء: أسماء، مواقف، تواريخ، سيارات إسعاف دخلت من بابٍ جانبي، أطباء وقّعوا تحويلات وهم يعلمون أن هناك أسِرّة أُغلقت «للتعقيم» على الورق فقط. لم تنم تلك الليلة أيضًا. في الصباح انتشرت الشائعة: «سمر كتبت في الإدارة». بعض الزملاء مرّوا بجوارها دون سلام. البعض نصحها هامسًا: «سيبك، اللي قبلك حاول واتنقل». بعضهم قال ببرودٍ يجرح: «افتكرتي ربنا إمتى؟» كانت تمشي في الممر والهواء أقسى من المعتاد، واللمبات البيضاء تصدر طنينًا يشبه كلامًا لا يُسمع. في الليل تلقت رسالة من رقمٍ مجهول: «ملفك عندنا. خليكي عاقلة». قرأت الرسالة مرتين ثم حذفتها. اتصلت بأمها، سمعت أنفاسها تتحسن قليلًا، وقالت لها: «بحبك». نامت ساعةً مثقوبة

بدأت التحقيقات متثاقلة كما تمشي قوافل جمالٍ في صحراء قديمة. إدارةٌ تسأل إدارة، لجنة تمرّ على الحضّانات وتعدّ الأسرة، دفتر دخول وخروج يُفتح وتنزلق منه أوراقٌ سقطت منذ شهور، مديرٌ يشدّ ربطة عنقه ويقول: «حنحاسب لو فيه تجاوزات فردية»، زميلٌ قديم يمرّ عليها ويهمس: «حاسبي على نفسك». في المقابل، كان حسني أكثر نشاطًا؛ بادر بالاتصال بأسماء لها ظلال في الإدارة، رفع شعار «سمعة المستشفى»، اتفق مع طبيبٍ يملك مساحة على «السوشيال» ليكتب منشورًا عن «بطولات التحويل وإنقاذ الأطفال»، ثم جاءها في الاستراحة وقال بصوتٍ خفيض: «عايزة إيه؟ نعدّل النسبة؟ نحط اسم أمك على قوائم الأولوية؟ الدنيا بسيطة». رفعت عينيها وقالت: «أنا عايزة حاجة واحدة: تقفل الشبكة تتقطع خيوطها أرجع أشوف البالطو أبيض». ضحك بقهقهة قصيرة، ثم قال: الأبيض بيتسخّ من أول يوم يا سمر. علشان كده بنحط فوقه بلاستيك

لم يعد شيءٌ في القسم كما كان. الأمهات صرن ينظرن إليها كأنها نافذة هواء، وبعض الأطباء كانوا يتهامسون عندما تدخل، و«عم سيد» فرد الأمن الذي كان يحيّيها بابتسامة صار يشيح بوجهه. ومع ذلك، كان هناك مشهدٌ واحد يعيد ترتيب الفوضى داخلها: أنامل طفلٍ مبتسر تُمسك إصبعها بإصرار، كأنه يقول لها: «لا تتركي». كانت تبكي بعد كل نوبة، ثم تمسح دموعها، وتعود. أمّها تحسّن حالها في المستشفى الخاص، وبعد أسبوعين نقلوها إلى غرفة عادية. في الزيارة الأولى التي سمحوا لها بها، جلست سمر عند قدميها وقالت: «هارجّعك بيتك، وهارجّع قلبي بيته». ابتسمت الأم راضية، وقالت وهي تربّت على يد ابنتها: ربنا يثبّتك يا سمر. اللي بيتوب بحق ربنا بيشيله

ذات مساءٍ ملبّد، قررت الإدارة عقد اجتماعٍ «عام» في المنصة الصغيرة القريبة من قسم الطوارئ. وُضعت طاولة عليها ميكروفونان، جلس المدير ومعه وكيل الشؤون العلاجية، ودعوا «كلّ من يهمه الأمر». حضر حسني في الصف الأول، شدّ كتفيه وابتسامته. وقفت سمر في الصف الثالث، قلبها ينبض في حلقها. بدأ المدير بكلمات عن «الشفافية» و«المصلحة العليا»، ثم فتح باب الكلام. رفع حسني يده، قال: «هناك حملات مغرضة تستهدف سمعة المستشفى. التحويلات تُجرى وفق الاحتياج، ولا يوجد أي استغلال». همّت سمر بالاعتراض لكن يدًا ألطف سبقتها؛ أمّ شابة رفعت طفلها على كتفها وقالت بصوتٍ مختنق: «أنا اتحوّلت مرتين. مرة لأن ما فيش حضّان، ومرة لأن الدكتور قال لي: وجودك هنا بيعطّل غيرك. دفعت دهبّي، وكنت هموت من الرعب». دوّى الهمس. رفعت سمر يدها، نظرت إلى المدير مباشرة، وقالت بلا ورق: «أنا كنت جزء من شبكة. اتصلت على أرقام، واستلمت أظرف. كنت بقول لنفسي إني بنقذ، بس الحقيقة إني ببيع. أمي نفسها اتنقلت بنفس الطريقة. أنا هنا علشان أقول: ده لازم يقف». سقط صمتٌ كثيف. بدأ مدير الشؤون العلاجية يسعل، قال: «ده اعتراف خطير، و…»، فقاطعته: أنا دفعت غرامة قلبي، ومش خايفة أدفع غرامة شغلي. بس لو سكّتنا النهاردة، بكرة هنبيع أطفالنا بدل ما نبيع حضّانات

في الأيام التالية تكسّرت أشياء في السر؛ تغيّر بعض الإداريين مواقعهم، أُغلق بابٌ جانبي كان يدخل منه من لا ينبغي، وظهرت تعليمات جديدة لتوثيق كل سرير فارغ في الوقت الحقيقي. لم تنتهِ الشبكة، بل استبدلت جلدها، لكن عقدها ارتخى. حسني صار يمرّ كظلٍ أقلّ غطرسة، يلوّح من بعيد ويختفي. أرسلت لها الإدارة خطاب نقلٍ «لصالح العمل» إلى قسمٍ آخر أهدأ: «الباطنة – سيدات». قرأت الخطاب ثم وضعته في حقيبتها مع خاتم أمها والسبحة الصّغيرة. في آخر نوبة لها في المبتسرين، وقفت وحدها أمام زجاج الحضّانات، وضعت جبينها عليه، وشهقت. تذكّرت صباح تعيينها الأول، رائحة المعقم، تعليق الممرضة القديمة عن «الثانية روح». قالت لنفسها: الثانية كمان ضمير

عادت أمّها إلى البيت، وجلست في الشرفة الصغيرة تنقع النعناع في كوب الشاي وتقرأ الدعاء بصوتٍ واطمئنان. كانت سمر تجلس عند قدميها على الأرض، رأسها مسنود إلى ساقين تعرّفتا على تعب العالم. قالت الأم: «المستشفى اتغيّر؟» أجابت سمر: «شويّة. أنا اتغيّرت أكتر». سألتها: «زعلانة من نقلك؟» هزّت كتفيها: «كل الأبواب شغل. المهم الطريق اللي بمشيه». في الليل، قبل أن تنام، كتبت رسالة قصيرة على ورقةٍ لاصقة وعلّقتها على مرآتها: «لا تُغلق عينك عما تعرف أنّه خطأ، حتى لو انفتح في قلبك ألف جرح». وفي الصباح لبست بالطوها الأبيض ذاته، لكنّها شعرت هذه المرة أنّه ليس جلدًا خارجيًا فقط؛ كأن خيطًا دقيقًا ممتدًا منه يربط بين صدرها وصوت أمّها ورقة يد طفلٍ تمسك إصبعها

في قسم «الباطنة – سيدات» كان الوجع من نوعٍ آخر؛ سكرٌ غير منضبط، ضغطٌ يعاند الدواء، نَفَسٌ يضيق بدرجتين مع كل سُلّم. لكنّ سمر كانت تسير بخطى ثابتة، تضع سماعة الأكسجين كما تضع جملةً في موضعها، تُعدّل الملاءة كما تُعدّل نيّة، وأحيانًا تقف في الممر وتغلق عينيها ثانيةً لتسمع همسًا خفيًا يقول: «ما تكسريش الخيط». كانت تعرف أنّ حسني وأمثاله لم ينتهوا، وأن شبكة الظلال لا تُقتل بضربةٍ واحدة، وأن المستشفى العام سيبقى في معركةٍ طويلة مع السوق والضيق والبشر. لكنها تعلمت شيئًا واحدًا لن تنساه: أنّ الانحراف لا يحدث بضربة، بل بزحلقةٍ صغيرة في ممر طويل، وأن الرجوع يبدأ بجملةٍ تُقال في توقيتٍ صحيح، ولو ارتجفت الشفاه

في مساءٍ بارد، عادت إلى المبتسرين كزائرة. وقفت خلف الزجاج، رأت ممرضةً جديدة تُمسك يد أمٍ قلقة وتشرح لها بهدوءٍ ما يعنيه رقمٌ في الشاشة. ابتسمت سمر. مرت يدٌ على كتفها؛ كانت الممرضة القديمة التي قالت لها يومًا: «الثانية روح». قالت لها وهي تبتسم: «لسه فاكرة؟» أجابت سمر: «وبكتبها كل يوم جوّايا». ضحكتا. قبل أن تغادر، تذكّرت ذلك اليوم في مكتب حسني، وظلال السيجارة التي ارتسمت كأفعى مطمئنة. الآن لا ظلّ. فقط هواءٌ بارد وعطر مطهّر، ووجوهٌ تذهب وتجيء، وخيطٌ دقيق ممتدٌ بين الأبيض الذي ترتديه والبياض الذي تحاول أن تراقبه في قلبها. أخذت نفسًا عميقًا، خرجت إلى الممر، ومشت
كانت المدينة في الخارج كما هي؛ ضوءٌ يجرح العيون، شوارع تُقايض الناس على الوقت، مستشفيات قديمة وأخرى تتلألأ كواجهات «مولات». لكنّ سمر شعرت وهي تضع قدمها على أول درجة في السلم أن شيئًا ما تغيّر فعلاً: صار لخطوتها وزنُ من يعرف أن الحكاية لا تُكتب مرةً واحدة ولا تُباع في ظرف، بل تُعاد كل يومٍ من جديد، بصوتٍ لا يرتجف، ولو ارتجف القلب

sdytm165@gmail.com

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *