
بقلم/نشأت البسيوني
في زحمة الأيام وفي ازدحام الطرق والوجوه ينسى الإنسان كثيرا أنه كائن هش معرض للانكسار وأن داخله مساحة لا يراها أحد تتقلب بين نور وظل بين أمل يتشبث بالنجاة ووجع يبحث عن كتف يضع رأسه عليه تلك المساحة الداخلية لا يتقن أحد الحديث عنها ولا يجيد أحد قراءة صمتها لكنها رغم وحدتها تشكل قاعدة البناء الحقيقي لأي حياة يمكن أن يسميها المرء حياته ليس من
السهل أن يشرح الإنسان لأحد ما الذي يدور داخله ولا أن يعترف بالقليل مما يثقل كتفيه لأن العالم أصبح سريعا أكثر مما يحتمل وقاسيا أكثر مما ينبغي ومتطلبا بما لا يترك للقلوب فرصة لالتقاط أنفاسها وهكذا يعيش الإنسان اليوم وسط صخب لا يشبهه وصمت يخصه وحده وتوق شديد لأن يجد لحظة صادقة يستريح فيها دون أن يسأل عما يؤلمه هنا تبدأ الحكاية حكاية كل إنسان عاش
بين صمود يتعبه وضعف يخفيه ورغبة مستمرة في أن يظل ثابتا أمام كل ما يحاول أن يزعزع الأرض من تحت قدميه حين تغيب أصواتنا خلف ضجيج العالم لم يعد العالم يمنحنا الوقت الكافي لنستمع إلى صوتنا الداخلي العلاقات السريعة الضغوط اليومية الخيبات الصغيرة التي تتراكم كحبات الرمل كلها تدفع الإنسان إلى أن يدفن مشاعره تحت طبقات من الالتزام والمجاملة والواجبات
تستيقظ النفوس وفي داخلها شيء لم يكتمل شيء كان يجب أن يقال ولم يقل شعور كان يجب أن يعاش ولم يعش خوف كان يجب أن يواجه لكنه تراكم حتى صار ظلا ثقيلا وقد يحدث ببساطة أن يتوقف الإنسان عن سماع نفسه لأنه منشغل بسماع كل شيء آخر
وعند تلك النقطة يبدأ الانهيار بصمت لا سقوط واضح ولا دمعة مدوية بل انطفاء بطيء لا يلاحظه أحد الإنسان بين ما يريد وما
يجب عليه كل يوم يقف الإنسان بين خيارين ما يتمنى أن يفعله وما يفرض عليه فعله وهذه الفجوة بين الرغبة والواجب هي التي تصنع معظم التوتر النفسي الذي نعانيه نريد الراحة لكن علينا العمل
نريد الحب لكن نخشى الانكشاف نريد الصراحة لكن نفضل الصمت حفاظا على العلاقات نريد الهروب لكن نرتبط بمسؤوليات تشدنا إلى الأرض هذه المفارقات اليومية ترسم خطوطا دقيقة فوق أرواحنا
كأنها تجعدها من الداخل ويكبر الإنسان وهو يتعلم أن يتعامل مع هذه المفارقات دون أن يتوقف طويلا ليعرف ماذا تريد روحه بالفعل
الوجع الذي لا نراه والوجع الذي نتهرب منه هناك نوعان من الألم
الظاهر الذي يتحدث عنه الناس، ويتعامل معه المحيط بصفته جزءا من الحياة هذا النوع يخفف بالأصدقاء بالدعم بالكلام بمرور الوقت
والخفي وهو الأصعب ذلك الذي لا يقدر الإنسان على شرحه ولا
يعرف كيف يضع له اسما هو خوف ممتد وشعور مبهم وتعب لا يعرف مصدره هذا الوجع لا يشفى بالكلمات بل يشفى عندما يعترف صاحبه به والمؤسف أن معظم الناس يهربون من مواجهة هذا النوع لأن الاعتراف به يتطلب شجاعة كبيرة والأكبر من الشجاعة يتطلب صدقا لا نمكث معه طويلا الوقوف على حافة الانطفاء من أصعب لحظات الإنسان تلك اللحظة التي يشعر فيها بأن روحه لم تعد
تضيء كما كانت يشعر بشيء من الانسحاب من الفتور من عدم الرغبة في الحديث أو الاجتماع أو التفاعل تتغير ملامحه دون أن يراه أحد ويضعف صوته دون أن يسأل أحد عنه الانطفاء لا يأتي فجأة إنه نتيجة تراكمات كلمة قاسية لم يرد الرد عليها خذلان صغير لم يشر إليه موقف مر عليه مرور الكرام لكنه ترك أثرا عميقا
انتظار طويل لم يثمر وعود لم تنفذ وقلوب لم تنصف صاحبها
ومع الوقت تصبح الروح ثقيلة تبحث عن مكان تستريح فيه وإن لم تجده اختارت الصمت اللحظة التي نعيد فيها اكتشاف أنفسنا
في منتصف هذا الإرهاق الطويل يحدث شيء يشبه الصحوة
قد تكون كلمة صادقة أو لقاء غير متوقع أو موقف بسيط يعيد للإنسان إيمانه بذاته وقد تكون وحدة طويلة تدفعه لمراجعة كل شيء أو خيبة كبيرة تجبره على البدء من جديد هنا يدرك الإنسان
أن كل ما حمله على كتفه طوال السنوات الماضية كان أكبر من قدرته وأنه كان يستحق راحة لم يمنحها لنفسه ويستحق حبا لم يطالب به ويستحق اعتذارا لم يصل إليه ويستحق حياة أكثر هدوءا مما عاشه هذه اللحظة هي بداية الضوء ضوء داخلي يبدأ صغيرا ثم يكبر كلما اعترف الإنسان بحقيقته لا بما يفرضه عليه الاخرون
العلاقات التي تبني والعلاقات التي تدمر لم تعد العلاقات كما كانت
هناك صداقة تبني فيك ما يتهدم كل يوم وهناك صداقة تهدم فيك ما تبنيه طوال سنة هناك حب يشعرك بأنك أقرب إلى الله وهناك حب يجعلك أبعد عن نفسك الإنسان كائن حساس جدا لطباع الآخرين كلمة صادقة من شخص يحبك قد تغير أسبوعك كله
وكلمة قاسية من شخص مقرب قد تغير حياتك كلها لهذا يجب أن نفهم أن العلاقات ليست زينة للحياة بل هي جزء أساسي من
صحتنا النفسية بعض العلاقات دواء وبعضها داء وبعضها يتركك حيا أكثر مما كنت وبعضها يتركك نصف ميت الهروب ليس ضعفا بل بقاء كثيرون يظنون أن الهروب من بعض العلاقات أو الأماكن أو الأحاديث ضعف لكن الحقيقة أن الهروب في كثير من الأحيان هو أعلى درجات القوة أن تترك ما يؤذيك أن تغلق بابا يؤلمك أن تتوقف عن العطاء في مكان لا يعرف قيمتك الهروب هو حماية حماية لروح
لم تعد قادرة على مزيد من الانكسار وحماية لكرامة أنهكتها المواقف
وحماية لقلب ضاق بما لا يحتمل البحث عن معنى في عالم يتغير
في زمن السرعة أصبح الإنسان لا يبحث عن النجاح فقط بل يبحث عن معنى لم يعد يكفي أن يمتلك المال أو يحقق الإنجازات الإنسان يريد أن يشعر بأنه يعيش لسبب وأن حياته ليست مجموعة أيام مكررة المعنى يأتي من كلمة صادقة إنجاز حقيقي علاقة ثابتة
أثر تتركه نافذة يرى منها غدا أفضل فعل بسيط يجعله يشعر بأنه إنسان والذين يجدون معنى يعيشون أطول وأهدأ وأقوى حين نكتشف أن النجاة ليست في العالم بل في داخلنا بعد كل التجارب بعد السقوط بعد الخذلان بعد التعب يصل الإنسان إلى حقيقة بسيطة النجاة ليست في الظروف ولا في الناس ولا في العالم
النجاة في داخلك في جزء صغير من روحك يرفض أن ينطفئ مهما
حدث ذلك الجزء هو الذي يعيدك كل مرة هو الذي يجعلك تقف رغم كل التعب هو الذي كلما ظننت أنه انتهى وجدته ما زال قادرا على أن يمنحك بداية جديدة خاتمة تشبه اعترافا هادئا نحن لا نعيش مرة واحدة كما نعتقد نحن نعيش بعدد المرات التي ننهض فيها من جديد وبعدد اللحظات التي نعيد فيها جمع شتاتنا وبعدد المرات التي نكتشف فيها أننا أقوى مما ظننا الحياة ليست صراعا دائما وليست امتحانا مستمرا هي رحلة رحلة مليئة بالضوء والظل بالأخذ والعطاء بالسقوط والقيام وما ننجو به في النهاية ليس ما نملكه بل ما نعرفه عن أنفسنا وما نتعلمه من الأيام وما دامت الروح تبحث عن ضوئها فهي بخير

