
بقلم/نشأت البسيوني
في تلك الليلة التي خلت من كل ما يشبه الرحمة
لم يكن في الدنيا ما يشير إلى اقتراب موت داخلي
ولا كان في الهواء ما ينبه إلى أن صدرا يتهاوى
ولا كان في السماء ما يحذر من أن قلبا عاش طويلا فوق طاقته
يستعد الآن لآخر انطفاء في حياته
لم يكن ثم شاهد واحد
ولا يد تمتد
ولا صوت ينصت
ولا روح تعرف أن شخصا ما
يحارب آخر لحظة في حرب لم تكن يوما حربه
كانت ليلة من تلك الليالي التي
لا يحتفظ بها التاريخ
لكنها تتخذ مكانا خالدا في داخل الإنسان
لأنها الليلة التي غيرته إلى الأبد
ولأنها
كانت الليلة التي مات فيها القلب
بداية الانطفاء
لم يكن الموت حدثا مفاجئا
بل كان سلسلة انهيارات صغيرة
تقع في الداخل دون صوت
وتسقط مع كل خيبة
وتتشقق مع كل كلمة جارحة
وتنطفئ مع كل انتظار بلا جدوى
القلب كان يعيش على شظايا
ويتنفس على أطراف ما تبقى من أمله
ويحمل فوقه أوزانا
لا يتحملها حتى الجبل
كان يعاتب بلا صوت
وينزف بلا دم
ويستغيث دون أن يسمعه أحد
كان يموت كما تموت الشموع
ليس فجأة بل قطرة بعد قطرة
حتى يصل إلى لحظة
لا يجد فيها شيئا يحترق
ثقل السنوات
كانت السنوات تمر عليه
كما تمر الرمال على حجر ناعم
تتركه أخشن أخشن أشد خشونة
وتمحو عنه كل نعومة عرفها يوما
الخيبات لم تكن واحدة
بل كانت سلسلة طويلة
من الأبواب المغلقة
من الوعود التي تكسرت
ومن الجنائز الصغيرة
التي أقامها لكل أمنية خبأها في جوفه
كل عام كان يأخذ منه طبقة
وكل علاقة كانت تأخذ منه جزءا
وكل سقوط كان يسحب نبضة
حتى صار القلب
يشبه أرضا
تناوب عليها القحط طويلا
فلم يعد فيها ما يصلح للحياة
على حافة النهاية
وصلت لحظة لم يعد فيها القلب
يملك قوة ينهض بها
لحظة كان فيها التعب
أعمق من الاحتمال
والخذلان أكبر من الصبر
والحزن أثقل من أن يحمل
والحقيقة أوضح من أن تنكر
لم يكن يريد شيئا
لم يعد ينتظر أحدا
ولم يعد يخاف من الفقد
كان فقط يريد
أن يتوقف
كان يريد أن يخرج
من حرب لم يخضها بإرادته
وأن يضع على الأرض سيفه
الذي لم يعد قادرا على حمله
كان يريد أن ينهار
في مكان لا يراه فيه أحد
لحظة الموت
عند منتصف الليل
حين سكنت الأصوات
وحين برد الهواء
وحين أُطفئت أنوار البيوت
كان هناك صدر يتنفس
آخر أنفاسه الثقيلة
حاول القلب أن يقاوم
لكن الدمعة التي انحدرت
على جانب الوجه
كانت إعلان الاستسلام الأخير
لم يكن الموت صاخبا
بل كان صمتا شديدا
يشبه سقوط ورقة يابسة
من شجرة مهجورة
انطفأ القلب
لا لأنه ضعيف
بل لأنه استنفد
كل ما في داخله من قوة للبقاء
مات لأنه
لم يعد هناك معنى للبقاء
مراسم دفن بلا مشيعين
قام صاحبُه بآخر ما لم يكن يريد أن يقوم به
دفنه
لم يكن دفنا جسديا
بل دفنا عاطفيا عميقا
دفنا داخليا
لا يراه أحد
ولا يعرف عنه أحد
دفن القلب في حفرة
داخل صدره
حفرة صنعها الألم بيديه
وحفرها الحزن بأظافره
ووسعتها الخيبات
حتى صارت قبرا جاهزا
لم يكن هناك بكاء
ولا صراخ
ولا وداع
كان صمتا طويلا
أشد ألما من كل أصوات الدنيا
دفنه بكل ما فيه
بالأحلام التي لم تكتب
بالوعود التي لم تتحقق
بالأيام الجميلة التي رحلت
بالذكريات التي صارت سكاكينا
وبالحنين الذي أصبح كابوسا
ما بعد الدفن
بعد أن دفن القلب
لم يحدث شيء مما كان يتوقعه
لم يخف الألم
لم تهدأ الذكريات
لم تتوقف الدموع
لم يشعر بالخفة
لم يجد السلام
بل على العكس
بدأت مرحلة
هي الأشد قسوة على الإطلاق
مرحلة الحياة دون قلب
صار كل شيء ثقيلا
الكلام
النظر
الصمت
الحركة
الصباح
الليل
حتى التنفس
صار مهمة شاقة
صار العالم باهتا
والأيام بلا طعم
والأصوات بلا معنى
والوجوه متشابهة
والخطوات بلا جهة
صار يعيش
لكن دون أن يشعر أنه حي
عندما يصبح الليل ساحة محاكمة
كل ليلة كانت تتحول
إلى جلسة محاكمة طويلة
يقف فيها وحده
أمام ذكرياته
كانت الذاكرة
تعرف كيف تطعنه
باللحظات التي لم يعد يقدر على تذكرها
ولا يقدر على نسيانها
تفتح له دفاتر
كان يظنها قديمة
وتعيد إليه أصواتا
كان يظنها اختفت
وتسرد عليه تفاصيل
كان يهرب منها كل يوم
الليل لم يكن صديقا
بل كان جلادا
يمد له سوط الحنين
ليلا بعد ليل
ماذا يفعل الإنسان بعد أن يخسر قلبه
يصير مثل بيت
فقد نوافذه
يدخل إليه الهواء
لكن لا يدخل الضوء
يتكلم
ولا يسمع صوته
يبتسم
ولا يصل صدى الابتسامة لعينيه
يمشي
ولا يعرف إلى أين
يتعلم
كيف يمثل الحياة
لا كيف يعيشها
يصير
كظل يتحرك بلا جسد
يصير
خاليا من كل ما كان يميزه
يصير
نسخة باهتة
من نفسه القديمة
الذاكرة لا تترك أحدا يرحل بسهولة
هناك نوع من الذكريات
لا يموت
يبقى واقفا
في منتصف الطريق
كأنه جدار
يصطدم به كل من يحاول التحرر
كانت الذكريات
تظهر دون إذن
وتجلس دون دعوة
وتبقى دون موعد للمغادرة
كان الماضي
يتجدد يوميا
داخل صدر فارغ
كأنه يجد متعة
في أن يعيد تشكيل الوجع
مرة بعد مرة
لا الرحيل يرحل
ولا البقاء يبقى
كل شيء
في منتصف الألم
حين يفشل الإنسان في نسيان ما أوجعه
النسيان لم يكن حلا
بل كان كذبة
لم يأت يوما
لم يخف الألم يوما
لم تمح التفاصيل يوما
كان كل ما حاول نسيانه
يعود إليه بشكل أسوأ
أوضح
أقرب
أعمق
أكثر وجعا
وكأن الذاكرة
تعرف أين تضغط
لتوقظ النبض
الذي مات
ومع ذلك هناك بذرة
رغم كل الظلام
كانت هناك نقطة صغيرة
لم تمت
لم تكن نبضة
بل شرارة
لم تكن ضوءا
بل خيطا رفيعا من الفجر
كان هناك جزء صغير
رفض أن يدفن
رفض أن يموت
رفض أن يختفي
ربما لأنه
الجزء الذي خلق للحياة
لا للفناء
ذلك الجزء
كان بداية العودة
البذرة تنبت ببطء
مرت أيام
وأسابيع
وشهور
والحزن ما زال
يمسك بتلابيب الروح
لكن البذرة الصغيرة
كانت تكبر ببطء
كطفل يتعلم المشي
من جديد
كانت تمنحه
لحظات قصيرة من الراحة
نسمات صغيرة من الدفء
ومساحات ضيقة
يشعر فيها
أنه ما زال يمكن
أن يعود
ولو جزءا صغيرا
من نفسه
العودة إلى الحياة لا تحدث دفعة واحدة
الإنسان لا يستيقظ في يوم واحد
وقد تعافى
بل يشفى
بشكل متدرج
موجة بعد موجة
ونقطة بعد نقطة
يشفى حين يقف
بعد أن سقط
ويشفى حين يبتسم
رغم الوجع
ويشفى حين يتذكر
ولا ينهار
ويشفى حين يتوقف
عن سؤال
لماذا؟
العودة
ليست معجزة
بل عملية بناء
تأخذ زمنا طويلا
قلب جديد لكن ليس كما كان
يعود القلب
لكن لا يعود كما كان
يعود
أكثر حذرا
أكثر فهما
أكثر وعيا
لا يعود لينكسر
بل ليحمى
لا يعود ليستغل
بل ليختار
لا يعود ليدفن
بل ليعيش
بحكمة خرجت
من قبر الألم
القلب الجديد
ليس نسخة عن القديم
بل هو
النسخة التي ولدت
من الرماد
الخاتمة
هكذا
تنتهي قصة القلب
الذي مات في ليلة
لم ينتبه لها أحد
ودفن بصمت
لم يسمعه أحد
وعاش بعدها الإنسان
سنوات بلا نبض
قبل أن يعود النبض
بأعجوبة
لا تشبه إلا معجزات الله
مات القلب
لكن الإنسان لم يمت
ودفن القلب
لكن الروح لم تدفن
وعاد القلب
لا كما كان
بل كما يجب أن يكون

