
بقلم د / عُـلا عبـد الهـادي – أخصائي علم النفـس التربـوي والإكلينيكـي
تُعد مرحلة المراهقة من أكثر المراحل العمرية حساسية في تشكيل الهوية النفسية والاجتماعية للفرد. فهي الفترة التي ينتقل فيها الإنسان من الطفولة إلى الرشد، محاولًا تحديد من يكون، وما الذي يريد أن يكون عليه. في هذه المرحلة، يبدأ المراهق في اختبار معتقداته، وعلاقاته، وصورته الذاتية، وغالبًا ما تترافق هذه التجارب مع صراعات داخلية قد تصل أحيانًا إلى ما يُعرف بـ”اضطراب الهوية”.
وفي خضم التحولات النفسية والاجتماعية التي يعيشها المراهق، تبرز قضية الهوية كواحدة من أهم التحديات التي تحدد مسار نموه النفسي وتوازنه الداخلي. فالمراهقة ليست مجرد انتقال جسدي نحو النضج، بل هي رحلة بحث مضنية عن الذات، تتقاطع فيها الأسئلة الوجودية مع الضغوط الأسرية والمجتمعية. وعندما تتصاعد حدة هذا الصراع دون دعم أو وعي كافٍ، قد يتحول إلى ما يُعرف بـ”اضطراب الهوية”، وهي حالة من الارتباك الذاتي يفقد فيها المراهق إحساسه بالانتماء والاستقرار النفسي.
من هنا، تأتي أهمية فهم هذا الاضطراب والبحث في أسبابه وتجلياته وطرق التعامل معه، كخطوة أساسية نحو حماية الجيل القادم من الضياع في متاهة الذات.
ويُعرف اضطراب الهوية بأنّه حالة من الارتباك أو التشوش في إدراك الفرد لذاته، أو في تحديد هويته الشخصية والاجتماعية. يشعر المراهق حينها بعدم الاتساق بين ما يراه في نفسه وبين ما يفرضه عليه المجتمع أو يتوقعه منه. ويُعد هذا الاضطراب جزءًا من صراعات الهوية الطبيعية في سن المراهقة، لكنه يتحول إلى حالة مرضية عندما يصبح مزمنًا أو مؤثرًا على الأداء النفسي والاجتماعي للفرد.
ويتأثر اضطراب الهوية لدى المراهقين بمجموعة من العوامل المتداخلة، النفسية والاجتماعية والثقافية، التي تتفاعل لتشكّل صورة الذات وتوجّه عملية النضج النفسي. ويمكن تلخيص أبرز هذه العوامل فيما يلي:
– العوامل الأسرية: إذ تُعد الأسرة أول بيئة يكوّن فيها المراهق وعيه بذاته. فغياب التواصل العاطفي، أو التناقض في أساليب التربية، أو التفكك الأسري، يؤدي إلى فقدان الإحساس بالأمان والانتماء، مما يضعف بناء الهوية المستقرة.
– العوامل الاجتماعية: فحين يتعرض المراهق في المجتمع الحديث لضغوط متعددة، من معايير الجمال والنجاح إلى تأثير الأقران ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه المؤثرات تخلق نماذج مثالية يصعب مجاراتها، مما يزرع في نفسه شعورًا بالنقص أو التشتت بين ما هو واقعي وما هو متخيل.
العوامل النفسية: فقد يواجه بعض المراهقين صراعات داخلية ناتجة عن تدني تقدير الذات أو عدم تقبل التغيرات الجسدية والعاطفية المرتبطة بمرحلتهم العمرية، ما يجعلهم عرضة لفقدان الإحساس بالاتساق النفسي.
العوامل الثقافية والدينية: يعيش بعض المراهقين حالة من التناقض بين القيم التي نشأوا عليها والمفاهيم الجديدة التي يكتسبونها من بيئات مختلفة، ما يخلق صراعًا بين الانتماء والتمرد، وبين التمسك بالأصول والرغبة في الاستقلال.
ويتجلى ذلك الاضطراب في عدد من العلامات السلوكية والفكرية التي من من أبرزها ويمكن ملاحظتها لدى المراهقين ما يلي:
– الشعور بالحيرة وعدم الاتساق الداخلي: إذ يعاني المراهق من صعوبة في فهم ذاته أو تحديد ما يريد، فيبدو تائهًا بين رغبات متناقضة واتجاهات متبدلة.
– تغيّر الانتماءات والمواقف بشكل متكرر: والذي يحدث حين ينتقل المراهق من مجموعة إلى أخرى أو يبدّل اهتماماته وقيمه بصورة مفاجئة، في محاولة للعثور على هوية تُشعره بالقبول والانتماء.
– القلق بشأن الصورة الذاتية: ويظهر ذلك في ازدياد انشغاله بمظهره الخارجي أو رأي الآخرين فيه، ما يجعله يقيس قيمته الشخصية بناءً على نظرة المحيطين به.
– فقدان الهدف أو الاتجاه في الحياة: حيث يواجه المراهق صعوبة في وضع خطط مستقبلية أو اتخاذ قرارات مصيرية، إذ يغلب على تفكيره الارتباك والشك في قدراته.
– صعوبات في العلاقات الاجتماعية: فنجده يميل إلى الانسحاب أو العزلة أحيانًا، أو إلى الانخراط الزائد في العلاقات بحثًا عن التقدير والاعتراف بالذات.
– تبدلات المزاج والسلوك: إذ تتراوح حالته بين التمرد والانطواء، وبين الثقة الزائدة والتردد المفرط، تبعًا لتقلبات إحساسه بالهوية والانتماء.
ويؤدي اضطراب الهوية إلى تراجع التكيف النفسي والاجتماعي للمراهق، مما قد ينعكس في سلوكيات انسحابية، أو تمردية، أو حتى في ظهور اضطرابات مصاحبة كالاكتئاب والقلق واضطرابات السلوك. كما يمكن أن يؤثر على الأداء الدراسي والعلاقات الأسرية، مما يعمق الإحساس بالعزلة والضياع.
ويعتمد التدخل العلاجي على مزيج من العلاج النفسي الفردي والدعم الأسري والاجتماعي. حيث يساعد العلاج النفسي المراهق على فهم ذاته، وبناء صورة أكثر اتساقًا وثقة بهويته الشخصية. بينما يُعد دعم الأسرة ركيزة أساسية لتقبله دون أحكام أو ضغط، مما يعزز شعوره بالأمان والانتماء. كما تلعب المؤسسات التعليمية والمجتمعية دورًا مهمًا في توعية المراهقين وتشجيع الحوار المفتوح حول قضايا الهوية والانتماء.
وفي النهاية، اضطراب الهوية ليس دلالة ضعف أو خلل، بل هو صرخة من داخل النفس تبحث عن تعريف واضح لذاتها. والمراهق الذي يجد من يفهمه ويسانده في هذه الرحلة، سيخرج منها أكثر نضجًا وثقة واستقرارًا. فالهويّة لا تُمنح، بل تُكتشف، وتُبنى عبر التجربة والدعم والوعي.

