مقال

اضطراب القلق العام: بين المبالغة في التفكير والخوف من المستقبل


بقلم / د/ عُــلا عبــد الهــادي – أخصــائي علـم النفـس التـربـوي والإكلينيكــي

في زمنٍ يسير بسرعة الضوء، لم يعد القلق حالة طارئة، بل أصبح أسلوب حياة يتسلّل بهدوء إلى تفاصيلنا اليومية. نستيقظ على خبر مقلق، وننام على فكرة لم تكتمل، وبين اللحظتين يعيش كثيرون أسرى لما يُعرف باضطراب القلق العام Generalized Anxiety Disorder ؛ ذاك القلق الذي لا يحتاج إلى سبب محدّد، لأنه يخلق أسبابه بنفسه حيث أنه اضطراب خفيّ التأثير، عميق الجذور، يتسلل بهدوء إلى تفاصيل الحياة اليومية حتى يغدو الإنسان أسيرًا لعقله وأفكاره


القلق في صورته الطبيعية مفيد، فهو ينبهنا للمخاطر ويدفعنا للاستعداد. لكن عندما يتحول هذا القلق إلى مبالغة مستمرة في التفكير والخوف من المستقبل، يصبح عبئًا نفسيًا يرهق الجسد والعقل معًا.صاحب القلق العام يعيش في حالة تأهّب دائم، يراجع ماضيه بقلق، ويتوقع الأسوأ من المستقبل، حتى وإن كان الحاضر آمنًا.


اللافت أن هذا الاضطراب لا يُرى بالعين، ولا يُقاس بدرجة حرارة أو تحليل دم، لكنه يأكل راحة الإنسان ببطء. تبدأ الأعراض بتوتر عضلي، أرق، خفقان متسارع، أو صعوبة في التركيز. ثم يظهر القلق في أبسط التفاصيل: مكالمة لم تُرد عليها، رسالة لم تُفتح، كلمة غير مكتملة تُعيد تشغيل الفيلم كله في ذهنك. يقول علماء النفس إن جذور القلق العام تمتد إلى عوامل وراثية وشخصية وبيئية، لكن الجانب الأهم هو طريقة التفكير. فالعقل القَلِق يميل لتضخيم الاحتمالات السيئة، وكأنه يعيش داخل سيناريوهات الخط باستمرار، ومن المثير أن هذه الحالة قد تصيب الأشخاص الأكثر التزامًا وحرصًا في حياتهم؛ فالرغبة المفرطة في السيطرة والكمال تولّد بدورها خوفًا مفرطًا من الفشل أو المفاجآت. ومع ذلك، لا يُعد اضطراب القلق العام حكمًا نهائيًا، بل هو حالة قابلة للعلاج.


و لا يمكن حصر أسباب اضطراب القلق العام في عامل واحد. حيث تشير الدراسات إلى أن العوامل الوراثية تلعب دورًا في قابلية الفرد للإصابة، إلى جانب العوامل البيئية مثل الصدمات النفسية، أو نمط التربية الصارم الذي يزرع الخوف في الطفل منذ الصغر. كما أن نمط التفكير القَلِق يُعد عاملًا أساسيًا في استمرار الاضطراب؛ فالأشخاص الذين يميلون إلى تضخيم المخاطر أو توقع الأسوأ باستمرار، يبرمجون عقولهم على القلق كآلية دفاع زائفة، رغم أنها تستنزفهم أكثر مما تحميهم.


و رغم عمق تأثير اضطراب القلق العام، إلا أنه قابل للعلاج بدرجة كبيرة حيث يُعتبر العلاج النفسي السلوكي Cognitive Behavioral Therapy – CBT من أنجح الأساليب، لأنه يساعد الشخص على تدريب عقله على التمييز بين الفكرة الواقعية والفكرة المبالغ فيها، ويعيد له الإحساس بالسيطرة على ذاته؛ أي أنه إذ يساعد المريض على إعادة هيكلة أفكاره واستبدال أنماط التفكير السلبية بأخرى أكثر واقعية ومرونة.


أما في الحالات الشديدة، فيمكن دمج العلاج الدوائي مع الجلسات السلوكية تحت إشراف طبي لتحقيق التوازن المطلوب. لكن قبل الطب، يظل الوعي هو الخطوة الأولى نحو الشفاء. أن نعترف أن التفكير الزائد لا يحل شيئًا، وأن المستقبل لا يُدار بالخوف منه، بل بالثقة والمرونة. الراحة لا تأتي حين تتوقف الحياة عن القلق، بل حين نتعلم كيف نعيش رغم وجوده.


وفي النهاية القلق، في جوهره، نداء من النفس يطلب الطمأنينة، وليس عدوًّا ينبغي قمعه. هو صوتٌ خافت يقول لنا إننا نحمل همومًا أكبر من طاقتنا، وإن الوقت قد حان للتوقف، للتنفس، وللثقة في أن الغد لا يستحق هذا القدر من الخوف. فالسلام النفسي لا يأتي حين تختفي الأسباب، بل حين نتعلم أن نتعايش مع المجهول دون أن نفقد اتزاننا أمامه.

osama elhaowary

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *