مقال

اضطراب الشخصية الحدّية لدى المراهقينBPD ملامح نفسية ومعرفية لمرحلة حرجة


بقلم د / عُـلا عبـد الهـادي

أخصائي علم النفـس التربـوي والإكلينيكـي

تُعد مرحلة المراهقة من أكثر المراحل العمرية حساسية في تكوين الإنسان النفسي والاجتماعي، إذ تشهد خلالها الشخصية الإنسانية حالة من التحول السريع في العواطف والإدراك والهوية الذاتية. وفي ظل هذه التغيرات المتشابكة، قد تبرز اضطرابات نفسية معقدة، يأتي في مقدمتها اضطراب الشخصية الحدّية Borderline Personality Disorder – BPD ، الذي يمثل تحديًا كبيرًا على المستويين العلاجي والاجتماعي.

ويُصنَّف اضطراب الشخصية الحدّية ضمن الاضطرابات الشخصية من الفئة (B) وفق التصنيف التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية (DSM-5) ، ويتميّز بنمط مستمر من عدم الاستقرار في العلاقات الشخصية، وتذبذب الصورة الذاتية، وشدة الانفعالات، وضعف القدرة على ضبط الاندفاعات، ويظهر المصابون عادة بمستويات عالية من الحساسية تجاه الرفض والهجر، مما يجعل علاقاتهم متقلبة بين المثالية المفرطة والنفور التام.

أما عن الخصائص النفسية والمعرفية للمراهق المصاب في مرحلة المراهقة، تزداد شدة أعراض الاضطراب نتيجة لتضارب الهوية واضطراب التوازن الانفعالي. ومن أبرز المظاهر التي تميز المراهق المصاب:
الاندفاع السلوكي والذي يظهر في إيذاء الذات، أو الإفراط في الإنفاق، أو الانخراط في علاقات عاطفية سريعة وغير مستقرة، التقلب العاطفي الحاد كالانتقال سريع بين حالات من السعادة المفرطة والاكتئاب أو الغضب، اضطراب الهوية مثل الشعور الدائم بالضياع وفقدان الهدف، والصعوبة في تحديد القيم أو الاتجاهات الشخصية، الخوف المرضي من الهجرحتى في مواقف بسيطة قد يُفسّر المراهق غياب الاهتمام أو التأجيل على أنه رفض أو تخلٍّ، وأخيرًا تشوه الصورة الذاتية والتي غالبًا ما يرى نفسه فيها بلا قيمة أو يشعر بالفراغ الداخلي المزمن.

وتُشير الأبحاث إلى أن اضطراب الشخصية الحدّية ناتج عن تفاعل معقّد بين العوامل الوراثية، والبيولوجية، والنفسية، والبيئية، ومن أبرز هذه العوامل:
العوامل الوراثية والعصبية كوجود تاريخ عائلي لاضطرابات المزاج أو الاضطرابات الشخصية، إلى جانب اضطرابات في النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، مما يؤثر في تنظيم العواطف.
العوامل البيئية المبكرة مثل التعرض للإهمال العاطفي،الإساءة الجسدية أو الجنسية، أو غياب أحد الوالدين في الطفولة.
الاضطرابات الأسرية مثل الصراعات المستمرة داخل الأسرة، وعدم وجود نموذج تربوي ثابت ومستقر.
السمات الشخصية المهيئة كفرط الحساسية الانفعالية، وضعف القدرة على التحمّل، وتدني تقدير الذات.

ويُعد تشخيص اضطراب الشخصية الحدّية في سن المراهقة عملية دقيقة ومعقدة، نظرًا لتداخل سمات المراهقة الطبيعية مع أعراض الاضطراب، حيث يعتمد على المقابلات الإكلينيكية المتعمقة، واستخدام مقاييس مقننة مثل Structured Clinical Interview for DSM (SCID-II)، كما يجب استبعاد الحالات المتشابهة مثل اضطراب ثنائي القطب أو اضطرابات المزاج، لضمان دقة التقييم.

و يعتمد العلاج على مقاربة متعددة الأبعاد تشمل العلاج النفسي والدوائي والتدخل الأسري: السلوكي الجدلي(DBT)، وهو الأكثر فاعلية، إذ يركز على تنمية مهارات التنظيم العاطفي وتحمل الضغوط وتحسين العلاقات الشخصية، العلاج المعرفي السلوكي(CBT)، والذي يساعد المراهق على تعديل أنماط التفكير المشوهة وتطوير استراتيجيات واقعية للتعامل مع المواقف، العلاج الدوائي لكنه لا يُستخدم لعلاج الاضطراب مباشرة، بل للتحكم في الأعراض المصاحبة مثل الاكتئاب أو القلق، وأخيرًا الدعم الأسري من خلال تدريب الوالدين على استراتيجيات التواصل الإيجابي وتقليل النزاعات داخل المنزل.

وتكمن أهمية الوعي المجتمعي في الكشف المبكر عن الاضطراب وتقديم الدعم النفسي الملائم للمراهقين، كما أن تقليل الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالأمراض النفسية يعد خطوة أساسية في تعزيز فرص العلاج والاندماج.


وفي النهاية . فإن اضطراب الشخصية الحدّية لدى المراهقين ليس مجرد حالة انفعالية عابرة، بل هو خلل في بنية الشخصية يتطلب تدخلاً متخصصًا ومبكرًا، ومن الجديد بالذكر أنّ الفهم العلمي الدقيق لهذا الاضطراب، إلى جانب بيئة داعمة خالية من الأحكام المسبقة، يمكن أن يفتح أمام المراهقين باب التعافي وإعادة بناء ذواتهم على نحو صحي ومتوازن.

osama elhaowary

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *