
بقلم/نشأت البسيوني
لا ينهار الإنسان في اللحظة الأولى التي يلمسه فيها الظلم بل ينهار تدريجيا كجدار ظل ثابتا لسنوات طويلة حتى نزع منه حجر صغير في الزاوية فبدأت شقوقه تتسع شيئا فشيئا ذلك الحجر الصغير هو الكلمة التي قيلت دون حق النظرة التي حملت اتهاما خفيا الباب الذي أغلق قبل أن يصل إليه صاحبه بنصف خطوة فالظلم ليس عاصفة الظلم ظل يتسلل أولا إلى الخطى ثم يكبر حتى يغطي كل
المسافة التي بين القلب والعالم تبدأ الحكاية دائما بلحظة لا تبدو مهمة ربما بخبر عابر إشاعة صغيرة تصرف تم تفسيره بزاوية منحرفة أو سوء فهم شق طريقه بين اثنين لا يعرف أحدهما كيف يشرح نفسه ثم تتوسع الحكاية هكذا بلا مقدمات بلا منطق بلا فرصة لإيقاف الجرح قبل أن ينجرف ويجد الإنسان نفسه وسط دوامة لا يعرف لها مدخلا ولا مخرجا دوامة يركض فيها صامتا بلا
قدرة على الدفاع وبلا يقين عن اليوم التالي فالوجع الحقيقي ليس في أن تتهم بل في أن تطفأ قدرتك على شرح ما حدث الوجع ليس في الخطأ الذي وضع عليك بل في العجز عن رفعه هناك محطات لا تنسى مهما التهمتها السنوات يوم يطول فيه الليل حتى يشبه دهرا ويوم يختفي فيه الأصدقاء بلا وداع ويوم يسير فيه الإنسان بين الناس وهو يشعر أنه يسير داخل فراغ لا يرى وكأن العالم يدور
حوله بينما هو ثابت لا يتحرك من يمر بالظلم يصبح خبيرا بأوجاع لم يعيشها الآخرون يعرف كيف تدفن الصدمة تحت الكلام العابر كيف يخفى الارتجاف خلف جملة قصيرة وكيف يمكن للإنسان أن يتنفس وهو يشعر أن الهواء ثقيل عليه المؤلم أكثر أن الظلم يعيد تشكيل الوجوه ليست الوجوه نفسها بعد تلك التجربة العين تفقد تلك اللمعة التي كانت تخطف الضوء والابتسامة تصبح أكثر حذرا
واليد التي كانت تمتد للعالم تتراجع قليلا وكأنها تريد أن تتأكد أولا أن الطريق آمن فالظلم لا يغير الظروف فقط بل يغير الفهم ويعيد ترتيب طريقة الإنسان في رؤية نفسه ليس كل من فقد شغفه كسولاوليس كل من صمت ضعيفا وليس كل من ابتعد متعال هناك من انسحب لأن الضربة كانت قاسية أكثر مما يحتمل ومع ذلك لا يموت الإنسان من الظلم يسقط نعم ينكسر ربما يستنزف بالتأكيد
لكن الموت الحقيقي لا يحدث بل يحدث شيء أدق وأعمق تغيير الجذور فالظلم يحفر في الأعماق حفرة تتسع بمرور الوقت ومع كل اتساع يزداد الإنسان وعيا ويزداد قوة ويزداد فهما أن العالم ليس كما يبدو وأن العدل الذي يبحث عنه في الخارج يبدأ من الداخل أولا من قبول الذات في لحظة لا يسمع فيها أحد صوتها هناك لحظة مفصلية في حياة كل مظلوم لحظة يدرك فيها أنه لن يحصل على
اعتذار ولا شرح ولا مراجعة من أحد لحظة يفهم فيها أن عليه أن يتعامل مع الألم كما هو لا كما يتمنى وأن الطريق الوحيد للخروج هو أن يكمل السير حتى لو كانت قدماه لا تحملانه تلك اللحظة رغم قسوتها بداية التحول فالإنسان حين يكف عن انتظار الإنصاف من الناس يبدأ في رؤية الإنصاف الذي يصنعه الزمن وحده الظلم لا يربح النهايات قد يربح المواقف قد يربح الأصوات العالية قد يربح
التصفيق المؤقت لكنه لا يربح النهاية أبدا النهاية تكتب في مكان آخر في زمن آخر بيد أخرى والعجيب أن النهاية دائما تأتي في اللحظة التي يظن الجميع أن القصة انتهت عند المرحلة الأولى يومها يكتشف الظالم أنه لم ينتصر ويكتشف المظلوم أنه لم يهزم فالحق لا يعود كما رحل بل يعود أعمق أثقل أكمل ويعود بطريقة تجعل صاحب الجرح يرى حكمة لم يكن قادرا على رؤيتها سابقا لأن
التجربة تعيد تشكيل الإنسان من الداخل فهي تترك أثرا لا يزول أثرا يشبه العظم الذي انكسر والتحم يعود أقوى لكنه ليس كما كان فالإنسان بعد الظلم لا ينسى لكنه يتعلم لا ينتقم لكنه ينضج لا يستسلم بل يعيد ترتيب خطواته ويدرك أن بعض الطرق لا تستحق العودة إليها وبعض الوجوه لا تستحق البقاء في الذاكرة وبعض الخسارات كانت رحمة لم تظهر ملامحها في البداية ومع كل هذا لا
ينتهي الظلم بالطريقة التي يتوقعها الناس لا ينتهي بصراع ولا بانفجار ولا بمواجهة ينتهي بصمت طويل يستيقظ فيه الإنسان ذات يوم ويكتشف أنه لم يعد يشعر بالوجع كما كان أن القلب الذي كان يئن بالأمس صار قادرا على احتمال ما لم يحتمله من قبل وأن الظل الذي كان يبتلع خطاه بدأ يتلاشى شيئا فشيئا ينتهي حين يصبح الماضي مجرد درس وحين يتوقف الجرح عن النزيف وحين يختفي
أثر اليد التي دفعت الإنسان إلى السقوط أقسى ما في الظلم أنه يغير طبيعة القلب وأجمل ما فيه أنه لا يستطيع قتل النور فالنور الذي يبقى بعد العاصفة لا يشبه أي نور نور خرج من قلب جرب ونجا وتجاوز وأدرك أن الحياة ليست عادلة دائما لكن الله عادل دائما وأن ما يكتب بيد البشر يمحى وما يكتب بيد القدر يبقى ولو كره الجميع

