
بمنحى جديد ومفاجئ، فتح الرئيس السوري أحمد الشرع باباً سياسياً غير مسبوق بدعوته إلى إشراف مباشر من الولايات المتحدة على عملية دمج قوات سوريا الديمقراطية قسد ضمن الجيش السوري، في خطوة يراها مراقبون نقطة تحول في العلاقة المعقدة بين دمشق وواشنطن، وتأسيساً لمرحلة انتقالية قد تُعيد رسم ملامح المشهد العسكري والسياسي في سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب والانقسام.
يقول اللواء شبل عبد الجواد، رئيس الشرطة العسكرية الأسبق ورئيس هيئة مكافحة الإرهاب بالمنطقة العربية، إن طرح الشرع يعكس إدراكاً سورياً نادراً بضرورة التعامل مع الواقع الدولي بمرونة سياسية، بعدما باتت واشنطن رقماً ثابتاً في المعادلة السورية. ويضيف أن فكرة إشراف القوات الأمريكية على عملية الدمج تمنح قسد الثقة وتمنع أي احتمالات لتمرد أو انقسام جديد داخل الجيش بعد توحيده، مشيراً إلى أن وجود ضامن دولي قوي في المراحل الأولى من الدمج يوفّر مظلة أمان لجميع الأطراف، ويمهّد الطريق أمام عودة مركزية القرار العسكري للدولة السورية دون صدامات أو مخاوف من تصفية حسابات
من جانبه، يرى المهندس علي عبده، رئيس مجلس التعاون العربي، أن التحرك السوري نحو واشنطن يحمل أبعاداً سياسية تتجاوز الملف العسكري. فبحسب رأيه، الشرع يوجّه رسالة إلى المجتمع الدولي بأن دمشق باتت جاهزة للتعامل بندّية وانفتاح، وأنها تبحث عن تسوية شاملة تحفظ سيادتها وتضمن مشاركة كل المكونات في إطار وطني موحد. ويضيف أن هذه الخطوة قد تعيد الثقة الإقليمية في الدور السوري، خصوصاً بعد سنوات من العزلة، مشدداً على أن إشراك واشنطن في هذه العملية لا يعني ارتهان القرار السوري، بل استخدام أدوات النفوذ الدولي لصالح الاستقرار الداخلي.
ورغم الحذر الذي يحيط بالمشهد، فإن مصادر دبلوماسية مقربة من المفاوضات تشير إلى أن زيارة الشرع إلى البيت الأبيض ولقاءه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب كانت مثمرة، حيث تم التوافق على خطوط عامة لآلية الدمج، تتيح للقوات الأمريكية دوراً رقابياً وفنياً في المراحل الأولى فقط، إلى أن تستعيد الدولة السورية كامل سيطرتها على جميع وحداتها. وتؤكد تلك المصادر أن واشنطن تنظر إلى هذا الاتفاق كفرصة استراتيجية لمنع عودة الجماعات المتطرفة إلى المناطق الشمالية والشرقية، وإغلاق ملف الوجود الأمريكي العسكري تدريجياً بطريقة تحفظ مصالحها الأمنية والسياسية.
أما على الأرض، فتشير تقارير ميدانية إلى استمرار التوتر في بعض مناطق دير الزور وحلب، رغم توقيع اتفاق مارس الماضي بشأن دمج مؤسسات قسد المدنية والعسكرية ضمن أجهزة الدولة، لكن مراقبين يعتقدون أن وجود إشراف أمريكي رسمي قد يسرّع تنفيذ الاتفاق ويحد من المواجهات. ويرى اللواء شبل عبد الجواد أن المرحلة الحالية تتطلب بناء ثقة متبادلة، لأن دمج القوات يحتاج إلى توازن دقيق بين الولاءات والانتماءات، فليس المطلوب إذابة قسد فوراً، بل إدماجها تدريجياً في منظومة الجيش عبر برامج تأهيل وانضباط تعيد صياغة العقيدة العسكرية على أسس وطنية موحدة
ويذهب المهندس علي عبده إلى أن الخطوة القادمة يجب أن تركز على ملف إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي بالتوازي مع الترتيبات الأمنية، موضحاً أن نجاح الدمج لا يكتمل دون إعادة دمج المجتمع نفسه في إطار مصالحة شاملة. ويقول إن قسد تمثل شريحة اجتماعية لها خصوصيتها الثقافية والسياسية، ولا يمكن إعادة دمجها بالقوة، بل بالحوار والضمانات، مضيفاً أن الدور الأميركي قد يكون عاملاً مساعداً لتجاوز العقبات النفسية والميدانية.
وتشير مصادر سياسية إلى أن المباحثات التي جرت بين الشرع والمبعوث الأميركي توم باراك تضمنت أيضاً موافقة مبدئية على انضمام سوريا رسمياً إلى التحالف الدولي ضد داعش، وهو ما وصفه مظلوم عبدي، قائد قسد، بأنه تحول استراتيجي يعزز التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب ويمنح دمشق اعترافاً دولياً جديداً.
ويرى المراقبون أن ما يجري اليوم ليس مجرد تفاهم عابر، بل بداية لمسار يعيد ترتيب المشهد السوري من الداخل، بحيث تتحول المواجهة من صراع نفوذ إلى شراكة أمنية محدودة الأجل، تنتهي بعودة القرار والسيادة إلى الدولة المركزية. ويخلص اللواء عبد الجواد إلى أن الشرع يتحرك بواقعية محسوبة، فهو يدرك أن بناء جيش وطني جامع لا يمكن أن يتم في فراغ، بل من خلال تفاهمات مدروسة تُعيد الثقة بين الدولة والمكونات المسلحة السابقة، بينما يضيف المهندس علي عبده أن هذه الخطوة قد تكون بداية الخروج من النفق الطويل إذا ما التزمت الأطراف بالمسؤولية الوطنية وتجنبت الحسابات الضيقة”.
بهذا الطرح الجريء، يبدو أن دمشق دخلت مرحلة جديدة من البراغماتية السياسية، تسعى فيها لاستعادة سيادتها عبر بوابة التفاهم لا المواجهة، واضعة نصب عينيها هدفاً واحداً: أن تعود سوريا الموحدة بكل مكوناتها تحت راية دولة قوية، لا تُقصي أحداً، ولا تخضع إلا لمصلحة الوطن

