
طارق غريب – مصر
يا من تسأل عن بدء البدء ، اسمع صوتي ، أنا الريح
أنا التي كنت قبل أن يُخلق التراب والمطر
قبل أن تُنطق كلمة ” كن” فتكون
كنت أطوف في حضرة العرش ، لا جرم لي ولا لون
أُداعب أجنحة الملائكة وأُقبل أطراف النور
وكنت أطير بين السماء والأرض أنتظر
أنتظر تلك اللحظة التي ستقال فيها كلمة واحدة
فيبتهج الكون كله دون أن يعلم لماذا
كلمة ستكون اسمها : مريم.
كانت حَنة بنت فاقوذ ، زوجة عمران الصالح
قد طال حزنها على العقم ، فخرجت ليلة لا قمر فيها
ورفعت كفيها حتى كادت أصابعها تلامس السماء
كنت أمر فوق أورشليم حين بلغني صوت امرأة ترفعه في الدعاء ، صوت خافت يخرج من صدر طالما ضاق بالحزن
فوقفت ساكنة لأسمع ، وكنت أنا الريح الوحيدة التي لم تتحرك تلك اللحظة.
قالت امرأة عمران :
﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
فتَلقتها السماء قبل أَن تكمل كلمتها.
ثم وضعت حملها ، فقالت في نفسها وهي تحزن أنها ولدت أنثى : ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا.
وكنت أنا الريح أشهد تلك اللحظة
حملت رائحة دموع الأم الصالحة
فصارت تلك الرائحة باقية في الهواء سنين طويلة
كلما مررت بذلك المكان عادت إلي رائحة النذر الأول
وكنت أحمل في صدري الآية التي ستُتلى إلى يوم القيامة : ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾
فصرت من يومها أنتظر اللحظة التي سأُكلّف فيها بحملِ الروح الأمينِ إلى هذه الطفلة التي نُذِرت قبل أن تُولد
وأُعيذَت من الشيطان الرجيم قبل أن تبكي بكاءها الأول.
أنا الريح التي سمعت النذر في ليلة لا قمر فيها
وشهدت أن الله قد اختارها وطهرها من بين كل الخلق
فبدأت أحمل في أجنحتي سراً لم يُعلن بعد
سر مريم التي ستصير أم ابن مريم.
كنت أنا الريح أدخل المحراب من شق في الجدار لا يراه أحد
أمر فوق السجادة التي كانت مريم تصلي عليها
وأخرج حاملة معي رائحة طهر
لا يعرفه إلا من دخل بيت الله خاشعاً
فلما مات عمران ، اجتمع الأوصياء في الهيكل
أراد كل واحد منهم أن يكفل اليتيمة التي نُذرت لخدمة بيت المقدس ، فاختصموا ، ثم ألقوا أقلامهم في النهرِ
ليُقرر الله بينهم
فكنت أنا الريح أحمل تلك الأقلام على سطح الماء
أدفعها بلطف حتى توقفت كلها
ووقف قلم زكريا وحده يسبح ضد التيار
فعلموا أن الله قد اختار له كفالة مريم
﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
كنت أنا الريح أشهد هذا الحوار كل يوم
أدخل المحراب قبل زكريا بخطوة واحدة
فأجد الفاكهة قد وُضعت في زاوية الغرفة الصغيرة
تفاحاً في غير أوان التفاح ، وعنباً في شدة الشتاء
ورُطباً جنياً لا يُوجد مثله إلا في أرض بعيدة
فيُدخل زكريا رأسه من الباب متعجباً
ويسأل مريم وهي راكعة أو ساجدة
فترفع وجهها بهدوء لا يُخطئه أحد
وتقول كلمة واحدة تهز قلب النبي : ‘هو من عند الله’.
فيخرج زكريا وهو يمسح دمعة خفية
ويرفع يديه في الظلام قائلاً :
﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾
وكنت أنا الريح أحمل هذا الدعاء إلى السماء بسرعة أكبر من أي صوت آخر
لأني عرفت أن رزق مريم لم يكن طعاماً فحسب
بل كان علامة على أن الله قادر أن يرزق من يشاء بغير حساب
حتى لو كان الرزق ولداً من نبي كبيرٍ في السن وزوجته عاقر.
وكنت أحرس باب المحراب كل ليلة
أمنع الهواء البارد من أن يزعج مريم وهي تقوم إلى صلاتها في الثلث الأخير ، وأداعب شعرها بلطف حتى لا تستيقظ
فأكون أنا الشاهد الوحيد على صلاة طفلة
صارت في سنوات قليلة ، أعبد أهل زمانها وأزهدهم.
أنا الريح التي عرفت سر الفاكهة في الشتاء
وعرفت أن مريم لم تكن يتيمة أبداً
بل كانتْ في كفالة مَن لا تضيع ودائعه
وكنت أنا خادمتها الخفية قبل أن يأتي اليوم الذي سأحملُ فيه الروح الأمين إلى صدرها.

