مقال

اضطراب الشخصية النرجسية فهم الذات المتضخّمة خلف القناع


بقلم د / عُـلا عبـد الهـادي

أخصائي علم النفـس التربـوي والإكلينيكـي

اضطراب الشخصية النرجسية Narcissistic Personality Disorder – NPD  هو أحد اضطرابات الشخصية التي تندرج ضمن المجموعة “ب” من الاضطرابات النفسية، والتي تتصف بالسلوكيات الدرامية والعاطفية وغير المستقرة. يظهر هذا الاضطراب في صورة تضخيمٍ مفرطٍ لقيمة الذات، حاجةٍ دائمةٍ للإعجاب، ونقصٍ في التعاطف مع الآخرين. ورغم أن بعض الصفات النرجسية قد تُلاحظ لدى الكثير من الأفراد بدرجاتٍ متفاوتة، إلا أن وجودها بشكلٍ دائمٍ ومبالغٍ فيه يعيق قدرة الشخص على إقامة علاقاتٍ صحيةٍ ومتوازنة.

وتُشير الدراسات إلى أن اضطراب الشخصية النرجسية ينتج عن تفاعلٍ معقد بين العوامل الوراثية والبيئية والتربوية. ومن أبرزها:
العوامل الوراثية: تشير الأبحاث إلى احتمالية وجود استعدادٍ جيني للإصابة بهذا الاضطراب، خاصة في العائلات التي يظهر فيها تاريخٌ من اضطرابات الشخصية.
البيئة الأسرية: التربية المفرطة في التدليل أو الإهمال العاطفي في الطفولة يمكن أن تسهم في تشكيل صورةٍ ذاتيةٍ غير متوازنة.
الخبرات المبكرة: التعرض للإهانة أو النقد الشديد في مرحلة الطفولة قد يدفع الشخص لبناء قناعٍ من التفوق لحماية نفسه من الشعور بالضعف أو العجز.

يتسم الشخص المصاب باضطراب الشخصية النرجسية بعددٍ من السمات التي تبرز في أنماط تفكيره وسلوكه وعلاقاته الاجتماعية، ومن أبرزها:شعورٌ مبالغٌ فيه بأهمية الذات والتفوق على الآخرين، انشغالٌ بالأحلام المتعلقة بالنجاح المطلق أو القوة أو الجمال أو الحب المثالي، الحاجة الدائمة إلى الإعجاب والثناء، استغلال العلاقات لتحقيق مصالح شخصية، افتقارٌ إلى التعاطف مع مشاعر الآخرين، حساسيةٌ مفرطة تجاه النقد أو الفشل، رغم مظهر الثقة الزائد بالنفس.

وغالبًا ما يعاني الأشخاص المصابون من صعوباتٍ في الحفاظ على علاقاتٍ مستقرة، سواء على الصعيد العاطفي أو المهني. فالنرجسي قد ينجذب في البداية لأنه يبدو واثقًا وجذابًا، لكنه مع الوقت يظهر سلوك السيطرة أو التلاعب، مما يؤدي إلى توترٍ وعزلةٍ عاطفية. كما أن السعي المستمر للكمال يجعل المصاب عرضةً للشعور بالفراغ الداخلي والقلق أو الاكتئاب عند الفشل أو فقدان الإعجاب.

يُعد اضطراب الشخصية النرجسية من أصعب الاضطرابات النفسية من حيث إمكانية العلاج الكامل، إذ لا يُصنف كمرض مؤقت، بل كنمط شخصي متجذر يتكوّن عبر سنوات طويلة، غالبًا نتيجة لتجارب الطفولة المبكرة التي تتسم بالتدليل المفرط أو الإهمال العاطفي. ورغم صعوبة التغيير الجذري، فإن العلاج النفسي –وخاصة العلاج السلوكي المعرفي– يمكن أن يُسهم في تحسين وعي الشخص النرجسي بذاته وبالآخرين، وتطوير قدرته على التعاطف وضبط سلوكياته.غير أن نجاح العلاج يظل مشروطًا باعتراف المريض بمشكلته واستعداده الحقيقي للتغيير، وهي خطوة نادرة الحدوث نظرًا لطبيعة الاضطراب ذاته. وعليه، فإن الهدف الواقعي من العلاج لا يتمثل في الشفاء الكامل، بل في التخفيف من حدة الأعراض وتحسين العلاقات الاجتماعية وجودة الحياة لدى المصاب ومن حوله.
إلا أن العلاج النفسي – وخاصة العلاج السلوكي المعرفي والعلاج التحليلي – يمكن أن يساعد المريض على فهم دوافعه العميقة وتعلم طرقٍ جديدةٍ للتواصل والتعاطف. وفي بعض الحالات، قد تُستخدم الأدوية لمعالجة الأعراض المصاحبة مثل القلق أو الاكتئاب، كما يلعب الدعم الأسري والتثقيف النفسي دورًا جوهريًا في مساعدة المريض على التكيف وتحسين جودة حياته.

في النهاية، اضطراب الشخصية النرجسية ليس مجرد غرورٍ زائد كما يُعتقد، بل هو بنيةٌ نفسيةٌ معقدة تتكون حول جرحٍ داخليٍ عميقٍ في تقدير الذات. يتطلب فهمه مزيجًا من التعاطف والحدود الصحية، سواء من الأخصائيين أو من المحيطين بالمريض. ومع الوعي والعلاج المناسب، يمكن للمصاب أن يتعلم كيفية بناء علاقاتٍ أكثر واقعية وتوازنًا، ويبدأ رحلة الشفاء من الداخل بدل البحث الدائم عن التقدير من الخارج.

osama elhaowary

About Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *